"التعليم عن بعد": كإستراتيجية لإدارة الأخطار العالمية (نماذج تجارب دولية) |
إيمان فخري
أصبحت ممارسة "الأنشطة عن بُعد"، مثل التعليم والعمل، ضمن الأساليب الرئيسية التي لجأت إليها الدول لمواجهة تداعيات انتشار فيروس "كورونا". فقد أتاح التقدم التكنولوجي الكبير في مجال الاتصالات إمكانية إدارة دورة تعليمية كاملة دون الحاجة لوجود الطلاب والمعلمين في حيز ضيق من المساحة، والسماح -في الوقت ذاته- باتخاذ التدابير الاحترازية لمنع انتشار "كورونا". وعلى الرغم من العوائد الإيجابية المتعددة التي يحققها التعليم عن بعد؛ إلا أنها تواجه عدة تحديات لا سيما في الدول النامية التي لا تتوفر بها بنية تكنولوجية قوية.
تجارب ناجحة:
يعد "التعليم عن بعد" أحد أهم المفاهيم والتقنيات الحديثة للتعليم بكافة مستوياته، وقد أصبح هذا النوع من التعليم ركنًا مهمًّا للاقتصاد المعرفي. ومن الجدير بالذكر أن التعليم عن بعد، أو ما يُسمى أحيانًا التعلم الإلكتروني المحوسب أو التعلم عبر الإنترنت؛ لا يعني تدريس المناهج وتخزينها على أقراص مدمجة، ولكنّ جوهر التعليم عن بُعد هو النمط التفاعلي، حيث يعني وجود مناقشات متبادلة بين الطلبة وبعضهم، والتفاعل مع المحاضر. فهناك دائمًا معلم يتواصل مع الطلاب، ويحدد مهامهم واختباراتهم.
وهناك عدة آليات للتعليم عن بعد، إما من خلال "تقنية الفيديو كونفرنس video conference"، أو "المحاضرات المباشرة (Live)"، أو قيام الأساتذة والمتخصصين بتسجيل عدد من المحاضرات ووضعها على موقع معين على الإنترنت. وفي هذا الإطار، يمكن استعراض "بعض التجارب الناجحة في هذا المجال" فيما يلي:
1- الولايات المتحدة: تُعد الولايات المتحدة هي الدولة الرائدة بلا منازع في مجال التعليم عبر الإنترنت، حيث تتوفر مئات الكليات عبر الإنترنت وآلاف الدورات التدريبية عبر الإنترنت للطلاب. فقد أشارت دراسة أجرتها عام 2011 مجموعة "سلون كونسورتيوم"، وهي إحدى المؤسسات الأمريكية الرائدة في مجال التعليم عن بعد، أن 6 ملايين طالب في الولايات المتحدة يتلقون دورة تعليمية واحدة على الأقل على الإنترنت .
ونتيجة تزايد الإقبال على الدورات الدراسية المقدمة عبر نظام التعليم عن بعد، فقد شجع ذلك جامعات أمريكية مرموقة -مثل: استانفورد، وبيركلي، وبرينستون، وجامعة كاليفورنيا، وعدد من المؤسسات التعليمية الأمريكية الأخرى- على تقديم دورات تعليمية عبر الإنترنت لأولئك الذين يفضلون هذه الطريقة ولا يستطيعون المشاركة في الصفوف الدراسية بشكلها التقليدي. ومن الجدير بالذكر أن البرامج التعليمية المفتوحة في الولايات المتحدة تُعد من أهم برامج التعليم عن بُعد في العالم، خاصة البرامج المقدمة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، التي تمثل نموذجًا دوليًّا تعمل العديد من دول العالم على محاكاته.
2- الهند: نما التعلم عبر الإنترنت في الهند بشكل أسرع من المؤسسات التعليمية التقليدية، حيث تعاني البلاد من أزمة تعليمية كبيرة نتيجة أن أكثر من نصف السكان قد تلقوا تعليمًا محدودًا، وفي كثير من الأحيان لا يمتلك المواطنون الهنود الوسائل اللازمة لاستكمال تعليمهم، إما بسبب العوامل المتعلقة بالتكلفة، أو العوامل الجغرافية التي تتمثل في طول المسافات بين المدارس والجامعات والقرى النائية في الهند، وبالتالي أتاح التعليم الإلكتروني المجال لشريحة واسعة من الطلاب الهنود لاستكمال تعليمهم بمراحله المختلفة.
3- الصين: تُعد الصين من أهم الدول التي يزدهر فيها قطاع التعليم عن بعد، حيث يوجد في الصين أكثر من 70 مؤسسة وكلية افتراضية (online institutions and colleges). ونتيجة للتنافس الشديد للحصول على الوظائف هناك، يسعى الطلاب إلى الحصول على مزيدٍ من الدرجات العلمية والدورات التدريبية في عدة مجالات، ليتمكنوا من الحصول على وظائف أفضل. إذن فالضرورة الاقتصادية قد ولّدت فرصة كبيرة لنمو قطاع التعليم عن بُعد في الصين.
4- كوريا الجنوبية: أتاحت البنية التحتية التكنولوجية القوية في كوريا الجنوبية انتشار التعليم عن بعد، حيث إن لديها بنية تُعد الأقوى في العالم، فهي تقدم واحدة من أعلى سرعات الإنترنت في العالم، وتتوفر خدمات الإنترنت حتى في المناطق الريفية، مما جعل الوضع مواتيًا لازدهار هذا النوع من التعليم. وفي هذا السياق، تشهد كوريا الجنوبية كل عام تزايدًا في عدد الطلاب المسجلين في دورات التعليم عن بعد بنسبة تفوق الطلاب الملتحقين بمؤسسات التعليم التقليدية.
5- ماليزيا: تتقدم ماليزيا بأقصى سرعة فيما يتعلق بفتح فرص جديدة للتعلم عبر الإنترنت، حيث تُعد جامعة آسيا الإلكترونية (Asia e- University)، ومقرها كوالالمبور، إحدى أهم الجامعات التكنولوجية في ماليزيا، حيث عملت هذه الجامعة على دعم المواطنين في المناطق التي تُعاني عدمَ توافر الجامعات، ولكنها تتمتع بإمكانية الوصول إلى الإنترنت، مما سهّل انتشار نظام التعليم عن بعد بين المواطنين الماليزيين بل والآسيويين أيضًا، حيث تقدم هذه الجامعة دورات تعليمية عبر الإنترنت لطلاب 31 دولة آسيوية مختلفة، وقامت الجامعة بالدخول في شراكات مع جامعات أخرى لتقديم برامج تتيح الحصول على درجات تعليمية من خلال الإنترنت، حيث تم -على سبيل المثال- تطوير برنامج ماجستير في إدارة الأعمال بالتعاون مع كلية إدارة الأعمال الدولية في الدنمارك.
6- أستراليا: أصبح التعليم عن بُعد خيارًا شائعًا على نحو متزايد بالنسبة للأستراليين الذين يرغبون في العودة إلى الدراسة دون ترك وظائفهم. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، نما سوق التعليم عبر الإنترنت في أستراليا بنسبة تقارب 20٪ ، ومن المتوقع حدوث نمو أكبر في برامج التعليم عن بعد التي تقدمها الجامعات الأسترالية، خاصة مع إقبال مزيدٍ من الطلاب الآسيويين، مما يجعل أستراليا أحد أبرز مزودي خدمات التعليم عن بعد.
مزايا التعليم عن بعد:
يتمتع التعليم عن بُعد بعددٍ من المزايا التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- سهولة الوصول للمحتوى التعليمي: فالتعلم عبر الإنترنت هو طريقة مناسبة للأغلبية، حيث يمكن للموظفين والطلاب -بل وربات المنزل أيضًا- الحصول على دورات ومحاضرات في المجالات التي يرغبون فيها، وذلك في الوقت الذي يناسبهم. فالتعليم عن بعد يتميز بمرونة الوقت، على عكس الفصول التقليدية. فمن خلال التعليم عن بعد يُمكن للعديد من الأفراد الحصول على الدورات والدرجات العلمية من خلال حضور المحاضرات على الإنترنت في عطلات نهاية الأسبوع أو في المساء بعد انتهاء أوقات العمل.
كما يعمل التعليم عن بعد على كسر حاجز الحدود، حيث لم يعد يتعين على الطلاب الانتقال من دولة إلى دولة أخرى للحصول على درجة علمية أو المشاركة في دورة تعليمية معينة، وأصبح كل ما يحتاجون إليه هو توفر إنترنت بسرعة عالية.
2- دعم عملية الاستيعاب: وذلك من خلال إمكانية تسجيل الفصول الدراسية، وقيام الطالب بمشاهدة المحاضرات أكثر من مرة حتى يستوعب المعلومات بشكل كامل، وهذا ما لا يتوافر في الفصول الدراسية التقليدية، حيث تبدأ المحاضرة وتنتهي في وقت معين، وإذا لم يتمكن الطالب من حضورها فليست هناك إمكانية بالتأكيد لتكرارها مرة أخرى، بعكس التعليم عن بُعد الذي يُمكّن المتعلمين من الوصول إلى المحتوى التعليمي في أي مكان وفي أي وقت، مما يساعد الطلاب بشكل أكبر خلال فترات التحضير والإعداد للاختبارات الدراسية.
وتشير العديد من الدراسات إلى أن الطلاب يفضلون المحتوى التعليمي القائم على التفاعل، وكذلك يفضلون مشاهدة مقطع فيديو بدلًا من قراءة صفحات كتاب. إذن، فالأدوات التي يستخدمها التعليم عن بعد تقدم المحتوى التعليمي بشكل أكثر جاذبية من التعليم التقليدي، مما يُسهّل تلقي الطلاب المعلومات وتطبيقها بشكل أفضل.
3- توفير الوقت وانخفاض التكلفة: ساهم التعليم عن بُعد في خفض الوقت اللازم للتعلم بنسب كبيرة، وهو ما يرجع إلى إلغاء الوقت اللازم لعملية الانتقال للمقر التعليمي والعودة منه إلى المنزل، كما أنه يُساهم في تخفيض التكاليف المالية بسبب عدم وجود تكلفة للانتقال، وعدم تكبد نفقات الإقامة والانتقال من دولة إلى أخرى، أو إلى مدينة أخرى داخل الدولة نفسها. وفي هذا السياق، تؤكد شركة IBM أنها تقوم بتوفير 50 ألف دولار لكل 1000 يوم تدريب في الفصل الدراسي، والتي تم استبدالها ببرامج التعلم الإلكتروني لرفع كفاءة الموظفين لديها.
4- عوائد بيئية إيجابية: نظرًا لأن التعليم عن بعد هو وسيلة غير ورقية للتعلم، فإنه يحمي البيئة من خلال عدم استخدام واستهلاك عدد كبير من الأوراق مقارنةً بأشكال التعليم التقليدي. فضلًا عن أنه -وفقًا للدراسة التي أُجريت على دورات التعليم الإلكتروني- وُجِدَ أن برامج التعليم عن بُعد تستهلك طاقة بنسبة أقل مقارنة بالدورات التعليمية التقليدية القائمة على التواجد في الجامعات أو المؤسسات التعليمية . وبالتالي فإن التعليم عن بعد هو وسيلة صديقة للبيئة مقارنة بأنماط التعليم التقليدي.
تحديات للدول النامية:
على الرغم من إيجابيات نظام التعليم عن بعد؛ إلا أن هناك تحديات تواجه هذا النظام، بعضها يتعلق بتفضيل بعض الأشخاص أن تكون تجربة التعلم وجهًا لوجه وليس من خلال الفيديوهات أو البث المباشر على الإنترنت، وهذه تفضيلات شخصية تختلف من شخص لآخر، وليست لها علاقة بمدى كفاءة هذا النظام.
من جانب آخر، لا تزال هناك بعض التحديات التي تواجه انتشار هذا النظام في بعض دول العالم، خاصة الدول النامية، مثل: عدم وجود بنية تكنولوجية لازمة لدعم نظم التعلم الافتراضي. بالإضافة إلى زيادة أعداد الأمية الإلكترونية، حيث يحتاج التعليم عن بُعد إلى وجود معرفة أساسية بالحواسب الآلية والإنترنت، في حين أن هناك دولًا لا يزال لديها عدد كبير من المواطنين غير قادرين على استخدام الحواسب الآلية أو الإنترنت بشكل كافٍ.
ختامًا، يمكن القول إن التعليم عن بُعد يُعد أحد الحلول التي لجأت إليها الدول لمواجهة انتشار فيروس "كورونا"، وعدم تعطيل العملية التعليمية بشكل كامل في الوقت نفسه؛ إلا أن هناك تحديات تواجه هذه العملية في بعض الدول النامية بسبب عدم توفر البنية التكنولوجية اللازمة وانتشار الأمية الإلكترونية.