استعادة التوازن: كيف يمكن إدارة الاقتصاد خلال مراحل الانتقال السياسي؟ |
ريم سليم
تتعرض الاقتصادات الوطنية في مراحل التغيير السياسي وفترات الانتقال، لاضطرابات هيكلية نتيجة لحالة انعدام اليقين، والمخاوف من احتمالات تفجر الأزمات السياسية، وتعثر عملية إعادة بناء نظم الحكم، ووضع أسس مستقرة وراسخة للنظام الجديد. وتتزايد أهمية هذه القضية في منطقة الشرق الأوسط نظرًا لارتباط الثورات العربية بمطالب اقتصادية دفعت المواطنين إلى الخروج للشارع، وهو ما يجعل الرضاء السياسي يرتبط بصورة أساسية بكيفية التعامل مع التحديات الاقتصادية لمراحل الانتقال السياسي.
معضلة المرحلة الانتقالية:
احتلت المطالبات بإصلاحات اقتصادية حيزًا كبيرًا من مطالبات المواطنين خلال الاحتجاجات الشعبية في المنطقة، لا سيما وأن النموذج الاقتصادي لهذه الدول يُعاني من مشكلات هيكلية مزمنة، ومن أبرزها: انخفاض مستوى المعيشة، وارتفاع اللا مساواة، وارتفاع نسب التضخم، وتدهور قيمة العملة المحلية، وتصاعد الفساد والمحسوبية.
ويصعب على الحكومات تنفيذ المطالب الاقتصادية التي يتطلع إليها الأفراد في بداية الفترة الانتقالية التي تعقب تغيير النظام القائم مباشرة، فلا يمكن -على سبيل المثال- تعديل المنظومة الضريبية، أو الإقرار بحدود جديدة للأجور، خاصة وأن مثل هذه السياسات تحتاج إلى قاعدة بيانات دقيقة ودراسات موسّعة.
وتشير الأدبيات إلى أنه خلال هذه الفترة يمكن تحقيق الحد الأدنى من احتياجات الأفراد الاقتصادية فقط، وتوفير البيئة الداعمة تشريعيًّا وأمنيًّا ومؤسسيًّا لممارسة الأعمال والمعاملات الاقتصادية، واتّباع السياسات اللازمة لمنع حدوث اختلالات أو أزمات داخل الاقتصاد خلال المرحلة الانتقالية.
أولويات الفترات الانتقالية:
وفي هذا الإطار، تبرز مجموعة من الأولويات العاجلة يجب على الحكومات تحقيقها وذلك بحسب الأدبيات، وبالنظر إلى التجارب المختلفة في المنطقة، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1- توفير السلع الرئيسية: عادةً ما يُسارع الأفراد عقب الأحداث السياسية الكبرى إلى شراء وتخزين السلع الرئيسية مما قد يُقلل من عرض هذه السلع داخل السوق، وهي السياسة التي يتبعها تجار التجزئة أيضًا، مما قد يقود إلى أزمة في السلع الرئيسية. وقد تقود مبالغة التجار والأفراد في تخزين السلع الرئيسية إلى شح عرضها. وهنا يجدر بالإدارة الاقتصادية للدولة أن تُدير عرض السلع الرئيسية بشكل يسمح بتوافر عرضها بسعر عادل في كافة أنحاء الدولة.
وفي هذا السياق، يمكن الإِشارة إلى ما واجهته السودان من أزمة في الخبز والوقود بعد إسقاط نظام "البشير"، وهو ما دفع المسئولين إلى تعيين مندوبين من الوحدات الإدارية للإشراف على توزيع الدقيق للمخابز، والرقابة على تحويل كل الوارد من الدقيق إلى خبز للمواطنين بالتنسيق مع الأجهزة النظامية، والرقابة على توزيع الوقود والغاز في المحطات المختلفة. وعلى الرغم من هذه الإجراءات المتبعة، إلا أن أزمة الخبز لا تزال منتشرة حتى الآن في العديد من الولايات السودانية.
2- تثبيت أسعار الصرف: يتأثر سعر الصرف بالأحداث السياسية وفترة انتقال السلطة، سواء أكان مدارًا أو حرًّا. ويرجع ذلك إلى عددٍ من الأسباب؛ أولها هو الاضطراب المحدود الذي قد يطال حركة الصادرات والواردات عقب تغيير النظام الحاكم بسبب تخوف التجار من انخفاض مستوى التأمين، لا سيما طرق التجارة البرية، بالإضافة إلى تصاعد اتجاه المدخرين إلى استبدال العملة المحلية بالدولار الأمريكي أو اليورو تخوفًا من انخفاض القوة الشرائية لقيمة العملة المحلية بسبب عدم الاستقرار السياسي مما قد يؤدي إلى انخفاض السيولة الدولارية في السوق، وإلى اضطراب سعر الصرف. فمع بدء الأزمة السياسية في الجزائر شهد الدينار الجزائري تراجعًا كبيرًا أمام العملات الأجنبية، حيث تراجع بنسبة 10% في شهر مارس وحده، وهو الأمر الذي وصفه المراقبون بالسابقة التي لم يشهد الاقتصاد الجزائري مثلها. كما عانت السودان من انخفاض كبير في قيمة عملتها خلال المرحلة الانتقالية، ولم تعاود العملة السودانية استقرارها النسبي إلا مؤخرًا.
3- بيئة ممارسة الأعمال: يتم تقييم بيئة ممارسة الأعمال من خلال استخدام عدد من المؤشرات الفرعية في قياسها، ويأتي على رأس هذه المؤشرات الاستقرار السياسي. وبالرغم من أن تغيير النظام الحاكم أو الإدارة السياسية للبلاد قد لا يقود إلى أي تغيير تشريعي أو مؤسسي يؤثر على بيئة ممارسة الأعمال، إلا أن ارتفاع حالة اللا يقين خلال الفترة الانتقالية يؤدي إلى تخوف رجال الأعمال من القيام بأي توسع في أعمالهم، وفي السياق نفسه قد يصاحب تغيير النظام الحاكم في بلد ما اضطرابات أمنية قد تؤثر سلبًا على بيئة ممارسة الأعمال، وعلى مستوى الطلب على عدد من السلع والخدمات غير الرئيسية.
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الحالة الجزائرية، إذ صرح الناطق باسم الجمعية العامة للمقاولين الجزائريين "مبارك جمال الدين لزهر" بأن حوالي 1360 شركة قد توقفت عن العمل بسبب عدم وجود مخطط واضح، وغياب التوقيع على التعديلات المختلفة التي تطال المشاريع، وتأخير دفع مستحقات الشركات لسنة 2018 -2019. كما أضاف أن هناك ما يقدر بنحو 3 آلاف شركة معرضة للخطر ذاته خلال المستقبل القريب.
4- منع التهريب: شهد العديد من دول المنطقة، سواء دول الموجة الأولى من الاحتجاجات أو دول الموجة الثانية، خلال الفترة الانتقالية تصاعد الاضطرابات الأمنية على الحدود، وهو ما سهل وحفز من اتساع حجم اقتصاد الظل، أو الاقتصاد غير الرسمي، حيث نشطت عمليات تهريب السلع سواء أكانت مشروعة أو غير مشروعة كالمخدرات والآثار والأسلحة، وقد تصاعدت هذه الظاهرة عقب سقوط نظام "البشير" مباشرة مما دفع المجلس السيادي السوداني لإصدار قرار في سبتمبر 2019 يقضي بإغلاق الحدود فورًا مع ليبيا وإفريقيا الوسطى لمنع تهريب السلع الاستراتيجية، وهو ما دفع تونس لإعلان حالة الاستنفار على الحدود مع الجزائر بالتزامن مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية العارمة التي أطاحت بنظام "بوتفليقة" في أبريل 2019.
تحديات اقتصادية متعددة:
يشهد الاقتصاد خلال الفترة الانتقالية التالية لسقوط النظام الحاكم تحديات متصاعدة، والتي تعود إلى أسباب سياسية وأمنية، إلى جانب العوامل الاقتصادية، ويمكن استعراض أبرزها فيما يلي:
1- تصاعد الإضرابات الفئوية: يخلق نجاح الاحتجاجات الشعبية في تغيير رأس النظام السياسي حالةً من السيولة السياسية، تدفع الأفراد والفئات المختلفة إلى الرغبة في التعبير عن آرائهم ومطالبهم. وفي هذا الإطار، تتزايد الاحتجاجات والإضرابات الفئوية التي تطالب بعدالة الأجور، وتغيير النظم الإدارية، ومحاسبة المسئولين المتورطين في عمليات فساد، وتعديل الإطار التشريعي. ومما يعزز هذا الاتجاه هو أنه عادةً عقب تغيير النظام الحاكم فإن المؤسسات الأمنية لا تتدخل لإيقاف التظاهرات إلا في حالة إثارتها شغبًا أو القيام بأعمال عنف.
ففي الجزائر، تصاعدت مطالب الجبهة العمالية المدراء ورفع الأجور، وقد شهد يوم العمال هذا العام حراكًا عماليًّا حاشدًا أمام النقابات لتعديل الأجور وتغيير المدراء والقيادات الفاسدة. وفي هذا الصدد، صرحت "جميلة تمازيرت" (وزيرة الصناعة والمناجم الجزائرية) في مايو 2019، بأن الإضرابات العمالية قد كلفت الاقتصاد أكثر من مليار دولار بسبب توقف الإنتاج في الشركات والمؤسسات الحيوية، ومنها المجمع البترولي الحكومي في سوناطراك.
2- نقص التمويل: يعد نقص التمويل من أبرز التحديات التي تواجهها الحكومة أو الإدارة الاقتصادية خلال الفترة الانتقالية. فعادة ما يؤدي الاضطراب السياسي إلى تراجع في الإيردات العامة للدولة بسبب التهرب من تحصيل الرسوم، أو توقف بعض الخدمات الحكومية وقطاع الأعمال العام، أو تراجع الإيرادات الجمركية بسبب اضطراب حركة الصادرات والواردات.
يضاف إلى ذلك انخفاض الطلب على السندات الحكومية أو أذون الخزانة خلال الفترة الانتقالية بسبب ارتفاع اللا يقين حول الوضع السياسي. ومن هنا يتعين على الحكومة في الفترة الانتقالية تدبير الموارد اللازمة لتغطية تمويل الحد الأدنى والأساسي من الحاجات العامة، ويعد نقص التمويل من أكبر الأزمات التي يُعاني منها السودان في الوقت الحالي، حيث أعلن رئيس الحكومة الانتقالية "حمدوك" في أغسطس 2019، أن الخرطوم تحتاج إلى 8 مليارات دولار خلال العامين المقبلين لسد الاحتياجات الأساسية، ولتغطية الواردات، وللمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد، ووقف تدهور الجنيه السوداني أمام الدولار.
3- الاضطراب داخل المؤسسات: يقود تغيير رأس النظام السياسي بطبيعة الحال إلى تغيير الحكومة بكامل وزرائها. وعادة ما ترتفع المطالب الشعبية المنادية بتغيير القيادات داخل مؤسسات الدولة، متهمين إياهم بالفساد أو بالتواطؤ مع النظام السابق، وهو ما يؤدي في المجمل إلى حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار مما يؤثر على كيفية تقديم الخدمات العامة بالسلب، وهو ما شهدته كل من الجزائر والسودان في مرحلتهما الانتقالية. فعلى سبيل المثال، تصاعد حراك شعبي قوي في الجزائر بعنوان "الشعب يريد رحيل رموز النظام"، وامتد هذا الحراك ليطالب بتغيير قيادات المؤسسات العامة.
4- تغير التحالفات الخارجية: يصاحب الفترة الانتقالية -كما سبقت الإشارة- ارتفاع حالة اللا يقين، وهو ما يقود إلى اضطراب في المدى القصير في معاملات القطاع الخارجي الاقتصادية. غير أن التأثير الأكبر على الاقتصاد يكون نابعًا من اضطراب العلاقات الخارجية على المستوى السياسي، خاصة أن النظام السابق عادةً ما تكون له علاقات مع قوى إقليمية ودولية تقدم له مستوى عاليًا من الدعم الاقتصادي في شكل منح ومعونات وتبادل تجاري واستثمار أجنبي مباشر، وبتغيير النظام الحاكم يتعرض هذا المستوى من الدعم الاقتصادي للتراجع.
آليات إدارة التغيير:
تواجه الحكومات خلال الفترة الانتقالية تحديات اقتصادية ضخمة، وتجد نفسها محاطة بمطالب شعبية مرتفعة السقف، ومقيدة بمخاطر عالية وحالة من اللا يقين. وفي هذا الإطار، تُشير الأدبيات إلى أنه من المهم بالمرحلة الانتقالية تشكيل لجان لحصر المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الدولة. أما من الناحية التمويلية فتبدو السندات ذات التأثير Impact bonds، أو سندات الدعم الاجتماعي وسندات التنمية، آلية مناسبة لتوفير التمويل اللازم لتغطية الحد المطلوب من الخدمات العامة والسلع الرئيسية، وكذلك لضمان استمرار عمل المشروعات العامة.
ويمكن تقسيم السندات ذات التأثير إلى نموذجين؛ أولهما السندات الاجتماعية الذي يقوم المستثمرون خلاله بتمويل أنشطة وخدمات مجتمعية، ثم تقوم الحكومة برد هذه الأموال إليهم مرة أخرى بشرط تحقيق المخرجات النهائية أو النتائج التي تم الاتفاق عليها مقدمًا.
أما النموذج الثاني فهو سندات التنمية، وهو منتشر في الدول النامية، ويتم من خلاله تمويل المشروعات التنموية، ولكن تحل المنظمات الأهلية أو المؤسسات المتطوعة محل الحكومة لتقوم بدور تمويل النتائج، وفي أحيان أخرى يمكن أن تنضم الحكومة كطرف ثالث في عملية التمويل.
يُضاف إلى هذا ضرورة التنسيق مع المؤسسات الاقتصادية الدولية والإقليمية، وكذلك التعاون مع الدول الأكثر استثمارًا في الداخل لضمان الدعم الخارجي للتجربة الانتقالية، فيما يعد أهم شرط لإدارة التغيير الاقتصادي إجراء إصلاحات فعالة مؤسسية وتشريعية.