إشكالية الأمن المجتمعي الخطاب الأمني وصناعة السياسة العامة |
تعنى السياسة العامة بضبط العلاقات بين مختلف الفواعل إن على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، وينضوي في هذا المسعى الفواعل الرسميون وغير الرسميون، كما ينسحب الأمر على العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. ويؤكد هذا التوجه الباحث “لاري ن. جيرستن” Larry N. Gerston حيث يقول أن السياسة العامة تمتد لتشمل القرارات، الالتزامات والأفعال التي تتبادر بها أو تتبناها الأطراف التي تمتلك السلطة أو النفوذ في الهيائات الرسمية للدولة، وهذه الترتيبات جميعها ليست سوى محصلة للتفاعل المستمر بين الفواعل الذين يمتلكون سلطة القرار جنبا إلى جنب مع المطالبين بإحداث تغييرات في السياسات العامة وأولئك الذين قد تتأثر مصالحهم بأية تحولات محتملة.
وحيث أن إرساء النظام العام وتثبيت أسس الاستقرار تدخل جميعها في صميم أهداف السياسة العامة، فإن مسعى تحقيق الاستقرار مرتبط ارتباطا وثيقا بإرساء الأمن أو بتعبير أدق إشباع مدركات الأمن لدى مستهلكيه من الأفراد الذي يتمتعون بحقوق المواطنة، إذ أن الأمن ليس سوى قطاع حيوي من قطاعات السياسة العامة. لكن إشباع مدركات الأمن، سيما في مفهومه الموسع والذي سيتم التطرق إليه لاحقا في هذا المقال، يواجه إشكالية ترتيب الأولويات لأن المخصصات المالية المرصودة لصناع السياسة العامة محدودة لذا فتوزيعها بين مختلف القطاعات يخضع لنقاش عام، غالبا ما يتسم بالحدة. وطالما أن هذا المقال ينصب على الطريقة التي يتم من خلالها تحويل قضايا معينة إلى الحيز الامني من السياسة العامة، وبالتالي تحويل موارد نادرة من قطاعات أخرى هي بأمس الحاجة إليها إلى حيز لا يخضع لاعتبارات المساءلة العادية، فإن هذا التحويل يرافقه عادة نقاش عام قد ينتهي بإعادة النظر في قرار التحويل.
يهتم هذا المقال بتقفي مسار التحول عن الأمن الدولاتي- التمركز state-centred نحو الأمن المجتمعي ودور خطاب الأمننة securitization discourseفي ذلك، كما يحاول إلقاء الضوء على تداعيات ذلك بالنسبة للسياسة العامة. لا شك أن “الأمن” يعتبر من بين الانشغالات الأساسية لمختلف فواعل السياسة العامة في تجلياتها الداخلية والخارجية، كونه يهتم بصيانة النظام العام الوطني والعالمي، ركيزة البقاء بالنسبة لمجمل هؤلاء الفواعل. وتاريخيا فقد ارتبط الأمن في المنظور التقليدي بكيفية استعمال الدولة لقوتها لإدارة الأخطار التي تتهدد وحدتها الترابية، واستقلالها، واستقرارها السياسي وذلك في مواجهة الدول الأخرى. وهكذا فإنه بهذه الصفة يكون الأمنمجرد مرادف للمصلحة الوطنية، وكيفية تعزيزها بالاعتماد على القوة في شقها العسكري. ويعود ذلك إلى حقيقة أن الدراسات الأمنية تطورت في إطار المدرسة الواقعية التي كانت ظروف الحرب الباردة مواتية لها لاحتكار هذا الحقل المعرفي.
تحولات مفهوم الأمن بعد الحرب الباردة:
قبل التفصيل في جوانب تطور مفهوم الأمن، يبدو الاعتماد على التعريف الذي يرد عند “أرنولد وولفرز″Wolfers Arnold مناسبا، حيث يقول أنه في جانبه الموضوعي يعني “غياب أية تهديدات تجاه قيم مكتسبة، وفي جانبه الذاتي فهو يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بأي من هذه القيم”. وبإسقاطه على فترة الحرب الباردة، فإن هذه التهديدات انحصرت في المخاوف التي سادت الو.م.أ. وحلفائها تجاه المد الشيوعي والمخاطر التي كانت تهدد القيم الليبرالية. وبهذا فقد آلت إلى دراسات أوربية (أو غربية) التمركز من جهة، مما ساهم في إقصاء شريحة كبيرة من الإنسانية وبناء تصور عنصري للأمن. ومن جهة أخرى، فقد غلب عليها الطابع التقني، بسبب ميلها إلى الجوانب العملية، وتنافس الباحثين على إصدار دراسات يمكن الاستناد إليها لصياغة سياسات فعالة لمواجهة الشيوعية.
أدى كل ذلك إلى تقرب الباحثين من دوائر صناعة القرار، مما أفقد هذا الحقل المعرفي الحياد الفكري الذي يعتبر ضروريا ليتحسس الباحث التهديدات الحقيقية للعالم المادي، إذ أن دخول دوائر صناعة القرار قيد إدراك الباحثين للتحديات الجديدة،8 كالفقر المتفشي في دول الجنوب، والذي وبتزامنه مع ضعف البنيان المؤسساتي في هذه الدول، فقد أدى إلى بروز التصادم بين المكونات والعصب الداخلية في إطار صراعها على الموارد. ومن الواضح أن الإخفاق في إدراك هذا التحدي الجديد كان طبيعيا بالنظر إلى أن التخصص في الحرب الباردة كان إحدى العوامل التي ساهمت في إخفاق التنبؤ بنهاية الحرب الباردة، مع ما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بعدم تمتع التصور التقليدي بمرونة كافية تسمح له بإدراك مستجدات النظام الدولي ومن ثمة صياغة سياسات ملائمة للتحولات الجارية.
ومع ذلك فإنه لا يجب التغافل عن محاولة الدراسات النقدية تغطية نقائص هذا التصور، بحيثرفضت ربط الأمن بالحرب ودعت بدلا من ذلك إلى الارتكاز على مفهوم أكثر إيجابيـة، وقد تزعمـها “يوهان قالتونغ” Johan Galtungبدعوتـه إلى “السلام الإيجابي” Positive Peaceو”كينيث بولدينغ” Kenneth Bouldingبمفهومه الخاص بـ “السلام المستقر” Stable Peace. فالأمن الحقيقي حسب هؤلاء يجب ألا يقتصر على غياب الحرب (العنف المباشر) بل يجب أن يتضمن إضافة إلى ذلك القضاء، أو على الأقل تقليص حدة، العنف غير المباشر (العنف البنيوي) في صورة تكريس تبعية دول الجنوب لدول الشمال عبر المؤسسات الدولية، على المستوى الدولي، أما على المستوى الداخلي فهو يتجلى في وجود اختلالات في الدخل بين الفئات الاجتماعية بحكم استغلال فئة/فئات مجتمعية للبنية السوسيو-سياسية في خدمة مصالحهم الاقتصادية.
تدعمت وجهة النظر الداعية إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن من خلال تقرير “إيقون بار” Egon Bahrالمقدم للجنة Palme(1982) والذي عنونه “الأمن المشترك” Common Security. ويرى فيه أن التركيز على القوة في عالم يتميز بمستويات عالية من التسلح وتضبطه حركية الاعتماد المتبادل غير مؤسس، فسعي الدول منفردة لتعزيز أمنها، سوف يقلص في نهاية المطاف أمن الدول الأخرى. وفضلا عن ذلك، فإن التركيز على المخاطر العسكرية في التعامل مع المعضلات الأمنية غير واقعي، إذ توجد أشكال أخرى من المخاطر التي تتهدد الدول وهي ذات طبيعة اقتصادية، بيئية وحتى ثقافية، كما وقد يكون وراءها فاعلين آخرين غير الدولة كشبكات “المافيا” والمنظمات الإرهابية.
أدى ذلك إلى تبني مفهوم أوسع للأمن أخذ تسميات متعددة كـ”الأمن المتكامل” Comprehensive Security (بحيث يتضمن كل أشكال التهديد)، و”الشراكة الأمنية”Security Partnership(بحيث يتم إشراك الدول غير الغربية)، و”الأمن المتبادل” Mutual Security(إذ يتم التخلي نسبيا عن نزوع الدول منفردة إلى تعظيم أمنها على حساب الدول الأخرى)، “الأمن التعاوني” Cooperative Security(بحيث يتم تقاسم الأعباء الأمنية لاحتواء التهديدات). لكن ورغم تعدد هذه التسميات إلا أنها لا تتجاوز الحدود التقليدية للمفهوم، أين تلعب الدولة ومؤسساتها الرسمية دورا حصريا في تحديد ماهية التهديدات وسبل مواجهتها.
مقابل هذه الاتجاهات التنقيحية ظهر الاتجاه “ما بعد البنيوي”Post-Structural الأكثر طعنا في الصياغة التقليدية. بحيث يدعو إلى إعادة النظر – ليس في وسائل التهديد ومصادرها فحسب – بل في وحدة التحليل أو الطرف المعني بالأمن. إذ أن الأمن من خلال هذا المنظور يجب ألا يقتصر على – أو يتحدد بـ- حماية الدولة وتعزيز رفاهها بل يفترض أن يهتم أيضا بحماية الفرد والمجموعة وتعزيز رفاههم. وواقعيا، فإن مثل هذا التغير يستند إلى إيجاد حجج صلبة له، فالدولة هيمنت كمحور للأحداث وكوحدة للتحليل في عالم “ما بعد وستفاليا”، وقد قامت الحروب بالأساس للدفاع عن الدولة ضد عدو خارجي، وتكفل بالمهمة جنود محترفون تولوا مهمة الذود عن سيادة دولهم، وقاموا بذلك مراعين – نسبيا – قوانين وأعراف الحروب، حيث لا يتم التعرض للمدنيين في أغلب الحالات، أو على الأقل فإن استهدافهم لا يعتبر جوهريا في استراتيجية المعركة.
التحول عن المعضلة الأمنية الدولاتية إلى المجتمعية:
شهد عالم ما بعد الحرب الباردة، ظاهرة الدول العاجزة سواء كمصدر أو كمحصلة للنزاع بين المجموعات الإثنية، والتي تعمل في كل حالة على تغذية هذه الوضعية، ففي غضون ذلك يختفي تحكم الدولة بإقليمها وتنتفي مظاهر سيطرة الحكومة واحتكارها لاستخدام القوة ووسائل القهر، والأهم من ذلك هو أن المجموعات المتناحرة تتبنى استراتيجية إشاعة الفوضى لتحقيق أهدافها. وهدفها بالتالي ليس الاستيلاء على السلطة لأن ذلك ليس في حدود إمكاناتها. إلا أن اعتمادها على استراتيجية إشاعة الفوضى جعلها تلجأ إلى أسلوب جديد للمواجهة باستخدام الميليشيات شبه العسكرية، العصابات الإجرامية والأطفال، وهذا لسهولة تعبئة هذه الفئات والتحكم بها وحتى توريطها في أعمال إجرامية محظورة دوليا.ولذلك، فإن الخاصية المميزة لحروب ما بعد الحرب الباردة تتمثل في اعتماد أسلوب الإرهاب بين المجموعات أو الأطراف المتصارعة وذلك عن طريق استهداف المدنيين، الإبادة الجماعية، والاغتصاب. ويتم ذلك بالاعتماد على أسلحة خفيفة وحروب عصابات لا تراعى فيها القوانين والأعراف الدولية الخاصة بالحرب.
وفي الصورة السابقة، يبدو التباين واضحا بين الحالتين، ويمكن بالتالي استشفاف صعوبة المقاربة للأمن بالمنظور الاستراتيجي التقليدي، فهناك غموض يكتنف طبيعة الفواعل المعنيين بالأمن وينسحب الأمر كذلك على مدى ملاءمة البنى التقليدية للعلاقات بين الدول للقضايا الأمنية المستجدة في النظام الدولي. ولم يعد بالإمكان الاعتماد على المعضلة الأمنية (حسب المفهوم الواقعي) الناجم عن سباق التسلح لتفسير التحديات الراهنة. وباختصار يقول “بالدوين” Baldwin أن حقل الدراسات يبدو أنه كان مجهزا بشكل سيئ لا يسمح له بالتعامل مع عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بخروجها من فترة الحرب الباردة بمفهوم ضيق للأمن الوطني واتجاهها لتغليب الأمن في شقه العسكري على الأهداف الأخرى للسياسة العامة. هذه الأهداف يمكن أن يرد ضمنها صيانة الاستقرار المجتمعي عن طريق منع اضطهاد مجموعة معينة. فعندما تحس مجموعة ما باللاّأمن إزاء السلطة الإقليمية، أو المجموعات التي تشاركها نفس الإقليم، فإن ذلك يؤدي إلى ما يسميه “باري بوزان” بالمعضلة الأمنية المجتمعية. والتي قد تنعكس على مستوى التهديدات التي تستشفها هذه المجموعة تجاه تطورها في ظروف مقبولة دون مساس بلغتها، ثقافتها، دينها، عاداتها، وهويتها بشكل عام.
لكن إذا تصاعدت حدة المعضلة الأمنية المجتمعية، فإن نتائجها قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لاستنفاذ موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الآخر من الوجود عبر التصفية الإثنية. ولأن المدنيين والنساء والأطفال والشباب هم الذين يحملون بذور بقاء الآخر واستمراره، فإنهم يشكلون الهدف المفضل لأطراف المعضلات الأمنية المجتمعية. ويُكَّرَّس ذلك أكثر بانهيار احتكار الدول لاستعمال وسائل العنف أو الإقرار بالعلاقات الاجتماعية التي تدفع إلى إثارة النَّعرات الإثنية في المجتمع. ويصعب في وضعية كهذه الاحتفاظ بالنظرة التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع من قطاعات أمن الدولة، فهو هنا كيان قائم بذاته وموضوع متميز للأمن.
الترابط العضوي بين مستويات الأمن:
يقود العرض السابق إلى ضرورة رسم صورة متكاملة لمفهوم الأمن يوضح الارتباطات الموجودة بين مستويات التحليل الثلاثة: مستوى الأفراد، الدول والنظام الدولي. بحيث أن الأمن على أي من هذه المستويات يعتبر ضروريا للأمن على المستويات الأخرى، وعلى حد تعبير “بوزان” Buzanفإن الأمن العالمي وأمن الأفراد وجهان لعملة واحدة. وبناء على هذه الطروحات يقترح Müllerثلاثة مستويات لدراسة الأمن يورد فيها الأطراف موضوع الدراسات الأمنية والقيم المهددة وهي العناصر التي ترد في تعريف Wolfersللأمن.
الجدول: مستويات الأمن الثلاث
الكيان موضوع الأمن
القيـم المهـددة
الدولــــة
المجموعــة
الأفــــراد
السيادة، والقوة
الهوية [النظرة للهوية تصقل التصور لماهية المصلحة]
البقاء والرفاه
ولأن هذه المقال يركز على الأمن الوطني في شقه “المجتمعي”، فإنه سيتم معالجة المستوى الثاني وذلك بتحديد الشكل الذي تتهدد فيه قيم هذه مكونات المجتمع بشكل يدفعه إلى الصدام الداخلي. ومن هنا فإنه يتعين تحديد موقف واضح إزاء مجموعة أسئلة تشمل المحاور التالية: الأمن لمن؟ لصالح أية قيم؟ في مواجهة أي شكل من المخاطر؟ وما هي الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الأمن؟
يمكن استشفاف إجابات مهمة لهذه التساؤلات من خلال تعريف “ميلر” Müller للمعضلة الأمنية المجتمعية، الذي ينتج حسبه عن “غياب الأمن المجتمعي”، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الاستمرار مع المحافظة على خصوصياتها، في سياق من الظروف المتغيرة والتهديدات القائمة أو الممكنة. وبتحديد أكثر فإنه يتعلق بإحساس هذه المجموعة المعنية بأن هناك مساسا بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدّين، والهوية والعادات، أو بأن تطورها لا يتم في ظروف مقبولة”. من خلال هذا التعريف يمكن الوصول إلى أن المكونات المجتمعية التي تضمها دولة ما، تعتبر بمثابة الكيان المعني بالدراسة الأمنية في هذا المستوى من التحليل. لكن ما هي القيم التي تتعرض للتهديد بحيث تجعل استقرار المكونات المجتمعية محورا جوهريا للمنظومة الأمنية.
يرى “بوزان” Buzanأن المعضلة الأمنية تتمحور حول الهوية، حول ما يمكّن المجموعة من الإشارة إلى نفسها بضمير “نحن” [“نحن” “أبناء المهاجرين” في “فرنسا”، “نحن” “الأكراد” في “تركيا” و”نحن” “سكان الضواحي الفقيرة” في “ريو دي جانيرو”]، لكن مكمن التحدي هنا هو جانبها التطوري. فهي عملية تفاعلية مستمرة للتحكم في المطالب الملحة وإشباع حاجات معينة، حيث يلعب الإدراك والذّاتية دورا مهما. غير أن هذا المسار التفاعلي قد يقود إلى معضلة أمنية مجتمعية إذا أصبحت الهوية جوهرا للصراع على المصالح وسندا للسعي من أجل الهيمنة أو سندا لبنية العلاقات القائمة مع المجموعات الأخرى. ويتضح ذلك في تغليب مظاهر “الأنا” على المظاهر التعاونية، وهذا بالالتجاء إلى المكونات المجتمعية، بدل مؤسسات الدولة، كإطار للصراع من أجل البقاء، وكضمان وحيد للأفراد للحصول على الحماية في مناخ يسوده الخوف.
ولكن سلسلة الأفعال وردود الفعل في التفاعل بين المجموعات المختلفة قد يؤدي إلى رفع سقف الوعود لدى قياداتها (بالمطالبة بالانفصال) ولدى المجموعات الأخرى أو الحكومة (بتقديم وعود بقمع التمرد). وبتداول خطابات الخطر، وزيادة مستويات الاستقطاب، فإن ذلك يفتح المجال أمام تفجر العنف، والذي يتم تغذيته بوجود دعم من الشتات، أو المرتزقة، أو المنظمات الإجرامية… وحينها يسود الاقتصاد غير الرسمي الذي تديره المجموعات الإجرامية، وتظهر هذه المتلازمة جليا في عدد من بلدان الساحل (المطلة على الصحراء الكبرى)، حيث تتآلف تنظيمات إرهابية مع مجموعات تنشط في التهريب ليتقاطع الجميع مع تطلعات مجموعات إثنية مشتتة تم قمع تطلعاتها من قبل دول آيلة للعجزfailingstates. وهكذا، وعندما يمتزج العنف السياسي بسقوط الاقتصاد بيد المجرمين، فإن العمل الإجرامي يصبح متساندا أو مستديما، ما يجعله تهديدا للسلم والأمن الدوليين، حال انتشار هذه الاضطرابات والفوضى لتشمل منطقة بأكملها.
هذه الوضعية المعقدة تقتضي استجابة دولية متعددة الأوجه، تهدف بالأساس إلى إقرار سلام مستديم، وذلك بمعاقبة مجرمي الحرب، وإعادة تثبيت أسس الاقتصاد الرسمي، الذي يعتبر كفيلا بتخفيف مستويات الاستياء، وبالتالي قدرة المجموعات على التعبئة للنزاع. والنتيجة تتمثل في إنهاء المعضلة الأمنية المجتمعية، وهي الحالة التي يعكسها تعريف “بالدوين” بتدني احتمالات إلحاق الضرر بأي من القيم المكتسبة.27 ولكن كيف يمكن تفعيل مساعي التدخل لمعالجة الاختلالات الناجمة عن المعضلات الأمنية المجتمعية، سيما وأنها تنطوي على تخصيص اعتمادات مالية وقبل ذلك تحتاج إلى الشرعنة. إن ذلك يتطلب إضفاء الطابع الأمني عليها to be securitized، وهذا يقتضي من الفواعل الرسميين وغير الرسميين توسيع أجندتهم الأمنية لتشمل التهديد الذي تفرضه المعضلات المجتمعية.
خطاب الأمننة ودوره في مراجعة عملية رسم السياسات العامة الأمنية:
إن تصور الأمن ليس له مضمون محدد سلفا بل أنه يتغير بشكل ديناميكي عبر التفاعل البيذاتاني intersubjective بين الأفراد. وتقدم “مدرسة كوبنهاقن” للأمن إطارا ملائما لدراسة الطبيعة الدينامكية لمدركات الأمن، بإقرارها بأن الأمن ليس مفهوما ثابتا، بل هو بناء اجتماعي يتشكل عبر الممارسة وبشكل ديناميكي. بالنسبة لـ “بوزان” فإن إضفاء الطابع الأمني securitization على مجال معين من السياسة العامة يكون عبر عملية خطابية لغوية، حيث يعمل هذا الخطاب على الاستدلال بوجود تهديد يمس البقاء (المادي أو المعنوي) لمرجعية أمنية ما قد تكون الفرد أو الجماعة أو الدولة أو الهوية، … وتهدف عملية إضفاء الطابع الأمني على قضية ما إلى شرعنة لجوء القائمين على رسم السياسة العامة للمؤسسة الدولية لترتيبات استثنائية الغاية منها تأمين “الكيان” (المرجعية) محل التهديد من المخاطر المحدقة به. ويتبع ذلك زحزحته من الحيز العادي للسياسة العامة إلى حيز القضايا الطارئة من السياسة العامة. حيث يمكن التعامل معها بسلاسة أكثر بمعزل عن الضغوط والقيود التي تمارسها الضوابط الديمقراطية لصناعة القرار، سيما ما يرافقها من ضغط لمنظمات المجتمع المدني.
وفي كتابهم المرجعي حول موضوع الأمننة يهتم كل “باري بوزان” Barry Buzan، “أول ويفر” Ole Waever و “ياآب دي فيلده” Jaap de Wildeبربط الأمننة أساسا بالسياسة العامة للحكومة: “الأمن وكل ما هو أمني إنما يعود على القضايا التي يتم التعامل معها بشكل متميز عن باقي القضايا السياسية الأخرى، ويتم ذلك عبر تحويل بعض القضايا السياسية من حيز العمل السياسي العادي [أي المداولة بشأن هذه القضايا على مستوى المؤسسات الرسمية] إلى حيز القضايا [الحساسة] التي تقتضي معالجة خاصة أو أكثر من ذلك قد يتم المداولة بشأنها في إطار غير الأطر السياسية الاعتيادية.”
حيث يقومون بعدها بالربط بين الأمننة والتسييس، “يمكن القول أن الأمننة بمثابة الصورة الأكثر تشددا لعملية التسييس. بالنسبة لتصور التسييس، فهو يتعلق بإضفاء الطابع السياسي على قضايا عامة [مجتمعية] بعينها، حيث أن القضايا التي يتم تسييسها تعتبر جزء من السياسة العامة للدولة، ما يعني أن الحكومة مجبرة على التعاطي معها عبر اتخاذ قرارات وتخصيص موارد لتنفيذ هذه القرارات. يشكل ذلك في مجمله وضع هذه القضايا ضمن الإطار العام للحوكمة [أي إرساء آليات الضبط بالشراكة مع المواطنين والمؤسسات غير الرسمية للدولة].
في حالة عدم تسييس قضايا [مجتمعية] معينة، فإن ذلك يعني بقائها خارج إطار الضبط المجتمعي الذي تمارسه الحكومة، فهذه القضايا تقبع خارج حيز النقاش العام، ولا يمكن المداولة بشأنها في المؤسسات الرسمية. أما إذا تم جلبها إلى حيز القضايا السياسية، فإن ذلك يعني من بين ما يعنيه أنها قضايا حيوية بالنسبة لصيانة مسعى تحقيق الرفاه العام. لكن إذا بدا أنها أكثر أهمية من ذلك، أي أنها حيوية بالنسبة لبقاء المجتمع نفسه، فيتم إحالة هذه القضايا إلى حيز القضايا الأمنية التي تستوجب اتخاذ تدابير عاجلة بما يبرر تبعا لذلك كل التدابير التي تتخذ عادة دون التقيد بالإجراءات الاعتيادية والتي تتسم أساسا بالشفافية.
نماذج عن دور خطاب الأمننة في مراجعة حيز السياسة العامة:
ولتوضيح ذلك، يمكن الاستدلال بإلإجراءات التي تتخذها الحكومات عادة إزاء انتشار الأوبئة، فهذه القضية تصبح قضية سياسية لأنها تتعلق بصيانة استقرار المجتمع ورفاهه، أما إذا أصبحت تهدد بقاء الدولة برمتها، حالة الانفلونزا المتحولة جينيا مثلا، فالقضية يتم إضفاء الطابع الأمني عليها، أي أمننتها، وفي هذه الحالة لن تضطر الحكومة إلى المرور عبر البرلمان لإقرار الميزانية المخصصة لمكافحة الوباء، ولن تضطر أيضا لفتح نقاش عام حول التعبئة العامة للمؤسسات الرسمية ولكل مكونات المجتمع وغير ذلك، لأن بقاء المواطنين وسلامتهم الجسدية على المحك وليس رفاههم فحسب. باختصار، تخلف الحكومة عن تبني إجراءات استعجالية، وتعليقها العمل بالتقاليد الديمقراطية الراسخة بالنتيجة، يعتبر تهاونا في حق المكونات المجتمعية والدولة عموما لأنها أي تحرك متأخر سيكون غير مجد، بل أن الدولة عبر سياستها العامة قد لا تستطيع أصلا التعاطي مع القضية لأنها قد تكون منهارة حينها.
السياسة العامة المتبعة إزاء النشاط الإرهابي أيضا تبين الأهمية التي قد يكتسيها مسعى الأمننة، إذ أن اعتماده على إضفاء السرية على المداولة إحدى مزاياه. وعلى سبيل المثال، لا يمكن أن نتصور هيئة أركان عسكرية تمثل أمام البرلمان قصد تقديم شروحات مفصلة حول عمليات تستعد للقيام بها قصد مكافحة مجموعات إرهابية، وكذلك حجم الموراد المالية المطلوبة وما يقابلها من ذخائر ومؤن وغير ذلك.
وفي الاتجاه ذاته، وبتبني طرح “بوزان” نخلص إلى وجود فارق بين أن يكون تدفق اللاجئين مثلا تهديدا أمنيا (عبور الحدود بشكل مخالف للقوانين)، وما يترتب عن ذلك من ضرورة دخوله حيز القضايا الأمنية، وبين أن تتبنى الدول خطابا يدعو إلى إضفاء الطابع الأمني على القضية. ففي الحالة الأولى، وفي غياب تدابير تعكس مدى الاهتمام بالمشكلة فسيتم التعامل معها في إطار القوانين المعمول بها وما تستدعيه من إضفاء للشفافية على طريقة التعاطي مع المشكلة، لكن ذلك يعني بالمقابل مزيدا من الوقت والجهد الضائعين بسبب القيود البيروقراطية وضغوط منظمات حقوق الإنسان.
وبالمقابل، فإن تداول خطاب سياسي “سلطوي” يقوم على تضخيم المخاطر الناجمة عن استمرار ظاهرة اللجوء وتبعاتها على الأمن الإقليمي والدولي بسبب الإنفلاتات الأمنية المحتملة جراء تهريب أسلحة مثلا، خطاب كهذا سيؤدي إلى إقناع عناصر “الفضاء العام” بمفهوم “هابرماس” من دول وناخبين ومنظمات حقوقية بضرورة إحالة الملف إلى حيز القضايا الطارئة التي تتطلب تعجيل إبرام اتفاقيات بشأنها وإحاطتها بالسرية، ما يعني استثنائها من الرقابة والشفافية كإحدى سمات صناعة القرار في نظام ديمقراطي.
وإن لم يكن الأمر بهذه الحدة بالنسبة لصناعة السياسة العامة على مستوى المؤسسات الدولية مقارنة بالدول إلا أن منطق الأمننة يبقى صحيحا إلى حد بعيد. وإذا راجعنا عملية أمننة مشكلة الإيدز ابتداء من التسعينيات، فإنه يمكن أن نستشف أثر الأنماط الخطابية المتبناة في وضع هذه المشكلة في خانة الأوبئة التي يتعين على الدول تعليق كل تحفظاتها إزاء رفع مستوى التفويض للمؤسسات الدولية لمنحها هامشا كافيا من المناورة قصد تطويق ما أصبح لاحقا، أي عقب نجاح مسعى الأمننة، بمثابة تهديد وشيك.
يركز خطاب الأمننة السلطوي على إقناع الأفراد كيف أن الإخفاق في ضبط هذا المشكل سيجعل كل شيء آخر غير ذا معنى، وبتعبير أدق إذا لم نتمكن من ضبط هذا التهديد الآن فلن نكون هنا للتعامل معه مستقبلا لأنه سيمس ببقائنا ذاته. والاحتمال الآخر أنه قد يترتب عن الإخفاق فقدان القدرة مستقبلا على التعامل مع المشكلة بالطريقة وبالحرية ذاتها التي نتمتع بها آنيا، وأفضل ملف يمكن الاعتماد عليه لفهم هذه النقطة هو الملف البيئي.
إذن تتيح عملية “الأمننة” أي “إضفاء الطابع الأمني” securitization على بعض قضايا السياسية العامة، حصول صانع القرار على هامش أكبر للمناورة عندما يتعلق الأمر بقضايا حيوية، حيث يحاط عمله بالسرية الكافية، كما يتم تمكينه من اتخاذ قرارات مستعجلة لا تستوجب المرور عبر القنوات المؤسساتية والرقابية التقليدية، بما يمكنه من تعبئة الموارد اللازمة لتنفيذ هذه القرارات طالما أنه حصل على تفويض شعبي مفتوح، فالقضية هنا هي قضية بقاء واستمرار.
غير أن “بوزان” يضع قيودا على عملية إضفاء الطابع الأمني، فالمسألة بالنسبة إليه ليست بهذه البساطة، وإلا فإن كل مجالات السياسة العامة سيتم وضعها في دائرة الحيز الأمني. وفي هذا السياق يحدد ثلاثة خطوات لنجاح عملية إضفاء الطابع الأمني:
توضيح كيف أن التهديد المزعوم يمس ببقاء الأفراد أو المجموعات أو الدول.
تحديد التدابير الطارئة التي يمكننا من خلالها ضبط هذه التهديدات والسيطرة عليها.
وأخيرا يتوقف الأمر كله على مدى نجاح الخطاب السلطوي في الحصول على رضا المواطنين إزاء ما يرافق عملية إضفاء الطابع الأمني على مسألة معينة، وبالذات خرق القواعد المعمول بها كالشفافية والرقابة.
يبدو من خلال طرح “بوزان” أن عملية تحويل قضايا السياسة العامة إلى حيز المعالجات الأمنية الطارئة، مثلما حصل مع قضية مكافحة الإرهاب على مختلف مستويات صناعة السياسة العامة، يتطلب تضافر عوامل سوسيولوجية تسهل مسعى صناع القرار. وعلى مستوى السياسة العامة العالمية إزاء مسألة “الإرهاب” فقد كان استهداف برجين لا يبعدان كثيرا عن مقر الأمم المتحدة كفيلا بإيجاد ظروف مناسبة لذلك. لكن “بوزان” يركز على مسألة أخرى ليست بأقل أهمية: هل تعتبر العملية برمتها شيئا إيجابيا أم سلبيا؟ يرى “بوزان” بأنها سلبية لسبب منطقي وهو أن تحويل الملفات إلى حيز المعالجات الأمنية يؤشر على شيء غير إيجابي وهو إخفاق السياسة العادية normalpoliticsفي التعاطي معها، ولذلك فإن وجود عدد من الملفات في “الحيز الأمني” يجب أن ينظر إليه بمثابة استثناء، والحل عنده هو نزع الطابع الأمني عنها desecuritizationوتحويلها لحيز السياسة العامة الطبيعية حيث الرقابة والتقيد بالقوانين والضوابط الديمقراطية.
خاتمة:
حاول هذا هذا المقال إبراز دور خطاب الأمننة في التحول نحو تبني، على مستوى السياسة العامة، لقضايا ناجمة عن ظهور ما اصطلح على تسميته بالمعضلة الأمنية المجتمعية. كما حاول المقال توظيف تصور الأمننة لفهم الانعكاسات المؤسساتية لأي تحول في السياسات العامة الوطنية لصالح إضفاء الطابع الأمني على قضية معينة، سيما تعليق العمل بآليات ديمقراطية راسخة كالرقابة والمساءلة. وهو ما يؤدي على المدى الطويل إلى آثار عكسية، إذ أن عدم ممارسة رقابة مجتمعية على أغلب القضايا المسيسة بدعوى أمننتها، يساهم في تبني خيارات لا تلقى ترحيبا لدى المجتمع ما يؤثر في استقراره في النهاية. وبذلك فإن الأمننة التي تم تسويقها في البدء كآلية لحماية المجتمع سيكون لها مفعول مغاير حال المبالغة في استثمار خطاب الأمننة في غير محله. وحيث أن نزع الطابع الأمني desecuritizationعن القضايا يعتبر الحل المقترح لدى “بوزان”، فإن المجتمع المدني، من بين فاعلي السياسة العامة، وكفاعل محايد مبدأيا، هو الفاعل الأكثر قدرة على ممارسة تعبئة شبكية، أي بحسب قطاع النشاط، وذلك لإعادة جل القضايا المسيسة لحيز السياسة العادية normal politics حال انتفاء خاصية الخطر والاستعجال.