سارة ناصح
يقف الاقتصاد العالمي الآن على صفيح ساخن في هذه السنة نظرًا لوجود العديد من التوترات والتحديات التي يواجهها والتي أدت بدورها إلى انتشار حالة من عدم التيقن في الأسواق في المدى القصير مما أدى إلى تراجع شهية المخاطرة لدى المستثمرين في بعض الأحيان، كما أدت إلى اقتراب معدلات نمو الاقتصادات المتقدمة من أدنى مستوى نمو كان النشاط الاقتصادي، لذا توقع تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي، انخفاض النمو في 2019 ليصل إلى 3.3% مقارنة بنسبة نمو بلغت 3.6% في 2018، وذلك بعد أن بلغ النمو ذروته في 2017 بنسبة 4%، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عدد من الأسباب وهي كالآتي:
أولا- الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين:
بدء النزاع التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 22/3/2018،عن وجود نية لفرض رسوم جمركية تبلغ قيمتها ما يقرب من 50 مليار دولار أمريكي على السلع وبعض المنتجات الصينية وذلك بموجب المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974 التي تسرد تاريخ الممارسات التجارية غير العادلة و سرقات الملكية الفكرية حيث أعلنت أمريكا أن الصين تقوض الملكية الفكرية، وكرد فعل أعلنت الصين أنها ستفرض رسومًا على قائمة من الواردات السلع بقيمة 60 مليار دولار، وبنسبة تتراوح من 5% إلى 25%، ومنذ ذلك الحين تتصاعد وتيرة الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم وهما أمريكا والصين، ولكن توجد بين حين وأخر حالة من الهدنة غير مستقرة بشأن السياسة التجارية والتي تعززها المفاوضات التجارية التي يتم عقدها بين الجانبين.
لم ينحصر تأثير فصول الحرب المستمرة منذ أكثر على البلدين فقط، بل أضرت بالاقتصاد العالمي ككل، بالنسبة للصين أكدت المؤشرات الاقتصادية الرسمية على وجود تباطؤًا نسبيًا في معدل نمو ثاني أكبر اقتصاد فى العالم حيث وصل إلى 6.2% وهو أقل معدل نمو وصلت إلية بكين منذ الأزمة العالمية 2008، وانخفض الطلب على الاستهلاك وكذلك انخفضت أسعار المنتجات الصناعية، كما أدت الحرب إلى تعرض الاقتصاد الأمريكي لأثار سلبية بسبب حالة الشد والجذب بين البلدين وانتشار حالة عدم التيقن بشأن مستقبل الاقتصاد لذا انخفض الطلب على الدولار الأمريكي وهو ما أدى إلى خسارة تقدر ب 400 مليار دولار، ويتوقع ألا يتعدى معدل نمو الاقتصاد الأميركي نسبة 2.4 % هذا العام أي بنسبة انخفاض بلغت 0.4% عن توقعات مايو الماضي، وذلك مقارنة بنسبة نمو بلغت 2.9% في 2018 كما انخفضت توقعات نمو هذا الاقتصاد في 2020 بنسبة 0.3%.
ولم تقف الأثار السلبية للحرب عند الدولتين فحسب بل أمتدت إلى دول الشرق الأوسط لأن اقتصاد دول الخليج يعتمد بصورة كبيرة على الصادرات النفطية، والحرب أدت إلى تباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي مما أدى إلى انخفاض الطلب على النفط وبالتالي انخفاض أسعار النفط العالمية، مما يؤثر بالسلب على اقتصاد تلك الدول، ونتيجة لارتفاع مخاطر التوترات التجارية وتراجع معدلات التجارة والتصنيع على الصعيد العالمي كما تراجعت مؤشرات أسواق المال والبورصات العالمية واتجه لذلك المستثمرين إلى الذهب الذي يعد ملاذًا آمنًا لهم فى أوقات الأزمات الدولية حيث تنخفض مخاطر الاستثمار به مقارنة بالعملات وأدوات الاستثمار الأخرى فى البورصات، كذلك انخفض نمو حجم التجارة إلى حوالي 0.5% في الربع الأول من 2019 على أساس سنوي.
ثانيا- أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي:
تشهد المملكة المتحدة جدلًا متصاعدًا فى هذه الفترة بسبب الانقسام حول خروجها من الاتحاد الأوروبي، حيث تقوم الحكومة بإجراء مفاوضات مكثفة مع البرلمان البريطاني والاتحاد الأوروبي لإعداد اتفاق يحدد كيفية وموعد خروج بريطانيا من الاتحاد ولم تنتهي المفاوضات حتى الآن، وألقت أزمة البريسكت بظلال سلبية على الاقتصاد البريطاني حيث يُعاني الجنيه الاسترليني من حالة اضطراب ويعتبر الجنيه مؤشراً يدلل على صحة الاقتصاد البريطاني أكثر من بورصة لندن المليئة بالشركات المتعددة الجنسية، وقد أدى ذلك إلى تراجع قيمة الجنيه الاسترليني إلى ارتفاع تكلفة الواردات مما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مما ينتج عنه تزايد في معدل التضخم، و تضغط البيئة البريطانية الغير مستقرة على القرارات الاستثمارية للعديد من الشركات والبنوك التي تعمل داخل بريطانيا لذا أنشأت العديد من البنوك مكاتب جديدة في ألمانيا وفرنسا وإيرلندا،ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى لحماية أعمالها الإقليمية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعلى الصعيد العالمي أدت الأزمة إلى هز ثقة المستثمرين في مناخ الأعمال العالمي، وأضافت المزيد من الضبابية والتخبط على التعاملات بالأسواق العالمية، ومن ثم تقويض آفاق النمو العالمي.
ثالثا- تراجع الطلب على النفط:
خفضت منظمة الدول المُصدرة للنفط “أوبك” في أخر تقرير لها يوم 11/9 توقعاتها بشأن نمو الطلب العالمي على النفط للعام 2019 و2020، حيث أشارت أن الطلب العالمي على النفط سيصل إلى 1.02 مليون برميل يوميًا حتى نهاية العام الجاري، أي أقل من توقعاتها السابقة بنحو 80 ألف برميل يوميًا، كما توقعت المنظمة أن يصل الطلب على النفط في عام 2020 إلى 1.08 مليون برميل يوميًا، بما يقل عن تقديراتها السابقة بـ60 ألف برميل في اليوم، وأكدت أن هذا التراجع بسبب ضعف بيانات نمو الناتج الإجمالي المحلي لاقتصادات عالمية كبرى خلال النصف الأول من العام الجاري، حيث تعد تلك الاقتصادات فاعلًا أساسي في ميزان العرض والطلب العالمي على النفط، وأكدت “أوبك” أنها ستستمر في اتفاق خفض الإنتاج المبرم بين أعضاء المنظمة والمنتجين الآخرين من أجل موازنة بين ضعف الطلب و تخمة المعروض النفطي.
وأعلنت وكالة الطاقة الدولية أن المؤشرات أن الاقتصاد العالمي تعرض للتباطؤ بسبب تصاعد حدة النزاع التجاري، مما أدى إلى تباطؤ نمو الطلب العالمي على النفط لأقل وتيرة منذ الأزمة المالية في 2008، لذا خفضت الوكالة، توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط في 2019 و2020 إلى 1.1 مليون و1.3 مليون برميل يومياً على الترتيب.
وعلى الجانب الأخر، ترتفع أسعار النفط بين حين وآخر بسبب التوترات التي تحدث للدول المصدرة للنفط فعلى سبيل المثل أدت هجمات على شركة أرامكو السعودية التي استهدفت موقع محطة بقيق، الأكبر لمعالجة النفط في المملكة وكذلك حقل خريص النفطي، وهو ما أثار مخاوف من اشتعال أسعار البترول، إلى إيقاف ما يقرب من نصف إنتاج المملكة، أو ما يعادل 5% من إمدادات النفط العالمية، بالإضافة إلى الخسائر المباشرة المرتبطة بالاستهداف مثل تكلفة إخماد الحرائق، وهبوط في البورصة السعودية، ومن المتوقع أن يتجه العالم لبدائل أكثر استقراراً واستدامة من سوق النفط الخليجي برغم ضخامته وأهميته، وبرغم صعوبة توفر بدائل متاحة فوراً لذلك، وقد تكون روسيا وفنزويلا والنيجر محط الأنظار بالفترة المقبلة.
وكذلك إذا نجحت ادارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في تنفيذ خطة تصفير النفط الإيراني والتي تأتي كحلقة من مسلسل الضغط الاقتصادي ضد طهران وتركز حملة الضغط الأمريكي على سوق النفط لأنه يمثل عصب الاقتصاد الإيراني لأن عوائده تُقدر بـ 40% من إجمالي عائدات الدولة، لذلك وجه البيت الأبيض ضربة مُوجعة للأقتصاد الإيراني، حيث أصدر قرارًا في مايو 2019، بعدم إعادة إصدار الاستثناءات التي شملت الثماني دول من العقوبات الأمريكية المفروضة على شراء النفط الإيراني، وذلك رغبه من واشنطن في تنفيذ خطة تصفير النفط الإيراني أي منع إيران من تصدير النفط لأي دولة في العالم وهو ما يعني انخفاض في المعروض النفطي وبالتالي زيادة في أسعار النفط مما سيكون له أثر على معدلات التضخم.
وقد أدت المشاكل سالفة الذكر إلى تراجع النمو الاقتصادي العالمي لذلك تسعى البنوك المركزية باتباع سياسات نقدية تسهيلية أى تخفيض سعر الفائدة، للدفع الناتج المحلي إلى النمو لأقصى درجة ممكنة، وتعزز طابعه الاحتوائي، وبالفعل بدأت العديد من الدول في اتباع سياسات من شأنها أن تحد من التباطؤ الاقتصادي العالمي وعلى سبيل المثال قام الاحتياطي الفيدرالي بخفض سعر معدلات الفائدة 25 نقطة أساس لتصبح 2%، كما أعلن البنك المركزي الأوروبي خفض سعر الفائدة على الإيداع بمقدار 10 نقاط أساس لتصل إلى -0.50% وأكد البنك أنه سيتمر في تلك السياسية حتى تتسارع وتيرة التضخم حتى تصل إلى المستوى المستهدف وهو 2%، فيما عززت الصين إجراءاتها في مجال التنشيط المالي والنقدي لمواجهة التأثير السلبي الناجم عن التعريفات التجارية حيث قام البنك المركزي بتخفيض معدل الاحتياطي الإلزامي للبنوك بمقدار 50 نقطة أساس لتصل إلى 13.0 %، مع خفض إضافي بمقدار 100 نقطة أساس للبنوك التجارية ومن المتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى زيادة السيولة في السوق بقيمة 900 مليار يوان (126.35 مليار دولار) لدعم الاقتصاد المتباطئ.
ختامًا، يمر الاقتصاد العالمي بنقطة فارقة في تاريخه، فإذا تم حل النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين وتم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين في المفاوضات المقرر عقدها في أكتوبر، وكذلك التوصل إلى اتفاق للخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستطاعت بريطانيا تجنب المخاطر والخسائر التي ستنتج من الخروج من الاتحاد دون اتفاق، واذا نجحت “أوبك” في تخفيض المعروض النفطي، وأثبتت السياسات النقدية التسهيلية فعاليتها فمن المتوقع أن يعود النمو الاقتصادي إلى مستوى 3.6% في العام المقبل. أما استمر الوضع القائم، فقد لا يحدث التعافي المتوقع في الاقتصادات الواقعة تحت عباءة الضغوط، والاقتصادات القائمة على الصادرات، وفي تلك الحالة، يتعين على صناع السياسات التكيف مع هذه الأوضاع. وطبقا للظروف، قد يقتضي الأمر أن تقدم البنوك المركزية لكل الاقتصادات دفعة تنشيطية متزامنة تتوافق مع ظروف كل بلد، وستكون السياسة النقدية التيسيرية عنصرا مكملا وضروري له.