دور متغيرَي السياسة والسلطة في «تأطير» اللغة كـمـجال سوسيوسياسي |
الشامي الأشهب يونس
تتَّسم السياسة إجمالاً بقدرتها المتأصلة على استثمار مجمل وسائط أو نتاجات النشاط الإنساني عموماً. لكن طبيعة استثمار السياسة للغـة في إطار ما يمكـن الاصطلاح علـيه «بعلـم سياسة» اللغة يخـضع لقـواعد خاصة نابعة من خصوصية الموضوع «الخاضع» للسياسة؛ فإذا كانت السياسة سلطة، فاللـغة سلطة. وإذا كانت السياسة تتـقاطع مع دائرة متسعة من العلوم، إذ يقاربها كل حقل معرفي بحسب قصديات و«زوايا» الاشتغال، ومصادر «الاستدلال»، وطبيعة الجهاز المفهومي…، فإن اللغة بدورها تُشكِّل موضوعاً لحقـول علمية من طبيعة الدائرة ذاتها.
وعلـيه، فإن التـقاطع بين اللغة والسياسة هو تقاطع ثابـت بين امتدادين للسلطة، أحدهما بمرجعية لغـوية ذاتية، والآخر بمرجعية سياسية ذاتـية. في المقابل، فإن اللغة تحتـفظ – تماماً مثل السياسة – بمجال اجتماعي «احتـياطي» للسلطة، إذ يمكن الحديث عن المجال الذاتي لسلطة اللغة والسياسة، والمجال الاجتماعي لسلطة اللغة والسياسة.
لكن خصوصية المجال الاجتماعي للـغة والسياسة تتجلى في كـونه يُشكِّـل امتداداً تبادلياً بين اللـغة والاجتـماع، والسياسة والاجتماع، الأمـر الذي يسمح ببناء أرضية ارتكاز موضوعية ثابتة تـرتبط بالمجال الاجتماعي والمجال السياسي في علاقـتهما باللغة في حـدود ما يتـيحه «براديغـم» السلطة.
إن هذا التجاذب من حيث مرجعية الانتماء المعرفي قد يُشكِّـل متغيراً تفسيرياً أساسياً للقابلـية المتـزايدة للغة للارتباط بالمجال السوسيوسياسي أو «لصناعة» مجالها السوسيوسياسي علاقة بمؤشرَي «السياسة» و«السلـطة»؛ فاللغة «وسيلة» للسلـطة والتـواصل «الاجتماعي»، كما أن اللـغة «وسيلة» للسلـطة والتواصل «السياسي»:
– اللغة «وسيـلة» للتـواصل؛ والسياسة تواصل.
– اللغة «وسيـلة» للسلـطة؛ والسياسة سلـطة.
تأسيساً على ذلك، فإن العلاقـة بين اللغة والسياسة والسلطة هي علاقة بين متغيرات بعلاقات تبادلية، لكن الملاحظ هـو أن السلطة – بحكم خصوصيتها – تخترق المجالين معاً: «الاجتماعي» و«السياسي» وفـق المحددات التالية:
– من اللغة إلى السلطة: المجال «الاجتماعي».
– من اللغة إلى السياسة: المجال «السياسي».
– من اللغة إلى السلطة إلى السياسة: المجال «السوسيوسياسي».
من هذا المنطلق، يسعى الباحث إلى دراسة العلاقـة بين اللغة والسياسة والسلطة في ضوء خصوصية المشروطية السوسيوسياسية عبر مقـاربة المجال الذاتي والمجال الاجتماعي لسلطة اللغـة، وعبر مقـاربة المجال اللغـوي للسياسة والمجال السياسي للغـة، ارتباطاً بالإشكالية التالية: «حـدود إمكانـية جـرد خـصوصية المـجال السوسيوسياسي للغـة ارتباطاً «بمـتغيرَي» السـياسة والسلـطة».
أولاً: اللغة ومجال السلطة: حدود الامتداد الاجتماعي «لمتغير» السلطة
إن دراسة اللغة ومجال السلطة تقتـضي مـقاربة العلاقـة بين اللـغة والسلطة من منـظور مـزدوج: منظور المجال الذاتي لسلطة اللغة [«البــنية» اللغـوية]، ومنظور المجال الاجتماعي لسلطة اللغة [«البنـية» الاجتـماعية].
1 – المجـال الــذاتي لسلـــــطة اللــغة
يعرف «فـولر» السلطة بأنها: «قدرة الأشخاص والمؤسسات على مراقبة سلوك الآخرين وحياتهم اليومية [..] وينتج من هذا الوضع تماثل في العلاقات». كمثال عن العلاقات السلطوية يمكن الإشارة إلى العلاقة بين القاضي والمتقاضي، والعلاقة بين الأساتذة والطلبة، وعلاقة الآباء بالأبناء، والمستخدم بالأجير، وعلاقـة الطبيب بالمريض[1].
إن تاريخ اللغة في مختلف مراحل تطورها كخطاب شفهي وكتابي يصوغ معاني وقضايا ومفاهـيم فكرية وفلسفـية يكشف عن قيامها على المستوى الاجتماعي والفكري كتاريخ لصراع حقـيقي على السلطة، ومجال من مجالات السيطرة والإقصاء، والتطلع إلى فرض سلطة جـديدة[2].
مرَّت اللغة منذ نشوئها بمراحل عديدة، إذ انتقلت من مرحلة سابقة عن نشوء اللغة اتسمت بحرية وعفـوية في التعبير الذاتي، واستعمال نظم إشارية وأنماط سلوك تواصلية لا تخضع لمفاهيم وتصورات جمعية تقـننها، وخلال مرحلة لاحقة تمأسست اللغة ثم الكتابة كنظام جمعي بموجب تعاقدات اجتماعية وتمثلات للواقع المحيط والعالم[3]. وهو ما مكَّن اللغة كوسيلة ذات قيمة جمعية ووظائف سياسية واجتماعية من سلطة خاصة متميزة خارج الزمن تتجاوز السلطة السياسية[4].
ويمكن في هـذا السياق اعتماد النموذج أدناه لإدراك طبيـعة هذه السلطة الخاصة؛ ذلك أن لصاً مسلحاً يمكن أن يقـول: «أعطني نقـودك وإلا سأطلق النار»[5]؛ في ما يتعلق بتصنيفية «فرنش ورافن» (French and Raven)، فإن اللص يتوفـر على مصدر لسلـطة الإكـراه، فالذي يمتـلك سلـطة الإكراه وله القـدرة على استعمالها يبادر إلى تحـويلها إلى تأثـير اجتماعي عبر إصدار التهـديد.
هكذا نلاحــظ أن التأثير الاجتماعي لا يتحقق على الرغم من توافـر أداة الإكراه، إذ يجب أن يمر عـبر اللغة. ولتـوضيح ذلك، يستـعمل المتحـدث اللـغة لإظهار أساس سلطة الإكـراه الذي يتوفـر علـيه وبيان مقاصده ومطالبه، لكـن اللغة – مع ذلك – ليست وسيطاً بسيطاً وسـهـلاً لتـحويل مصدر السلطة إلى تأثيـر، ففي المـثال أعلاه يرتهـن الأمر بمعطيات متعـددة[6]:
- كيفية صيـــاغة التــــــهديد.
- نبرة الصوت التي تمَّ نقل التهديد عبرها.
لذلك، فإن محاولة التأثـير يمكن أن تحظى بدرجات متفاوتة من النجاح، ولهذا السبب لا يجب النظر إلى اللغة بكيفـية أحادية باعتبارها ممراً سلبياً للسلطة، بل كمشارك إيجـــابي في ممارسة السلطة[7].
علاقة بذلك، وتأسيساً على الاختلافات الأسلوبية في بث رسالة «إقـناعية»، يمكن تحديد طبيعة لغة المتحدث؛ سواء كلغة مؤثرة أو غير مـؤثرة، إذ تُعـرَّف اللغة غير المؤثرة – نمطياً – باعتبارها لغة تستعمل بكيفية متكـررة بعض الأساليب مثل:
- التمويه/التهـرب [يُمكن، يُحتمل]؛ تجنُّب إعطاء أجـوبة مباشـرة.
- عبارات التشديد/التهـويل [الأكثـر، بشكـل كبيـر..].
- الأسئلة الإثباتـية [أليس كذلك؟].
- أساليب التردد.
في حين تُعرَّف اللغة المؤثرة بغياب هذه الأساليب. وقد أكد أوبارا (O’Barr) أن الأسلوب غير المؤثر يعكس نسبياً المنزلة الاجتماعية المتواضعة للمتحدث عموماً[8]. الخلاصة أنه انطلاقاً من التصور الأسلوبي يتمُّ التعامل مع السلطة كمعطى يتمُّ نقـله ميكانيكيا عبر اللغة. كما يتمُّ التعامل مع التأثير أو السلطة في الأسلوب اللغوي كمعطى، بحيث يُفترض تأثير هذا الأسلوب في التقييم الاجتماعي مباشرة[9].
لعل هذه الخصوصية النوعية التي تُميِّز اللغة هي التي تُفسِّر اعتبارها بمثابة «سلطة تشريعية، واللسان قانونها. على اعتبار أننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر، فكل لهجة تتعين أكثر ما تتعين، لا بما تخول قوله بل بما ترغم على قـوله»[10]. فالمتحدث يكون مرغماً دوماً على الاختيار بين صفة التذكير والتأنيث، وتحديد علاقـته بالآخر، إما باستعمال ضمير المخاطب بصيغة المفرد أنت، أو بصيغة الجمع أنتم، وهكذا «فإن اللغة – بطبيعة بنيـتها – تنطوي على علاقة استلاب قاهرة، فاللغـة توجيه وإخضاع معممان»[11]. ذلك أننا «لا نتكلم كما نريد، إذ إن بعض الإكراهات تُثـقل كاهل لغتنا. ومع ذلك، فهي ليست إكراهات لسانية، على اعتبار أن الإكراهات اللسانية هي التي تُحدِّد نطقـنا، وألفاظنا، وتركيبنا اللغوي، والتي لا يمكن مخالفتها من دون أن نتعرض لسوء الفهم، ولكن هناك إكراهات أخرى تنتمي إلى المستوى الاجتماعي وتتعلـق باللغة»[12].
في الموازاة، يذهب هانس جورج غادامير إلى أن الذي «يحد أفق مسألة الإنسان واللغة هو منح الإنسان سلطة مُعيَّنة وإبراز القـوانين التي تبني هذه السلطة؛ إننا نسميها نحـواً وتراكيب ومعجماً»[13]. في اللغة إذاً «خضوع وسلـطة، فلا مكان للحرية إلا خارج اللـغة، بيد أن اللـغة البشرية من سـوء الحظ لا خارج لها: إنها انغـلاق ولا محيد لنا عنها إلا من طـريق المستحيل»[14]. إذ يبدو أن تصور مجال معـزول خارج اللغة سيضعنا أمام اللامعنى، وطالما أن اللامعنى هو «انغـلاق» آخـر مرتبط بتأجيل الفاعلية اللغـوية، فإن خارج اللغة يتـبدى لـ «ر. بارط» مستحيـلاً.
ولعل سلطة اللـغة تتجلى من خلال مساهمتها في تشكـيل دلالة «الأشياء» القابلـة للإدراك عبر طـرائق متعددة؛ سواء عبر السماح للإشارات الزائلة باقتـباس الدلالة من الإشارات التي ما زالت تحتـفظ بدلالتها، أو على العكس من ذلك، من طريق جعل [القـيم الدلالية] المتلاشية أكثـر متانة، أو من طريق الوقـوف وراء اختـفاء واضمحلال الظاهرة الثـقافية الثابتة [في سياق فقـدان السمعة أو في سياق الهجـر وعدم الاستعمال][15].
من ناحية أخـرى، فإن الأيديولوجيا لا تضفي على كلامنا معنى فقط، بل تمنحه سلطة؛ سلطة الإقناع، أو الاستقـطاب أو التنديد أو الرفض[16]. إن الأيديولوجيا إذاً هي التبرير العقلاني – إلى هذه الدرجة أو تلك – للسلطة […] لكن الميدان المفضل والمتميز للأيديولوجيا هو اللغة[17].
ارتباطاً بما سبق، فإن اللغة تمثـل وسيطاً للتواصل وتحويل قاعـدة السلطة إلى تأثير، كما أن اللـغة تسـاهم في خلق وإنشاء السلطة، كما أن تغـييرها أو الحـفاظ عليها يتمُّ داخـل اللغة وعبرها[18].
2 – المجال الاجتماعي لسلطة اللغة
إن طبيعة اللغة وجـوهرها لا يمكن أن يُفهـما بوضوح إلا من خلال الـدور الذي يؤديانه في حـياة الإنسان الفـرد، وحياة الجماعة اللغـوية الواحدة، وحـياة الإنسان بصفـة عامة. وقد عبَّر أحد الباحثين عن هذه الحقيقـة بقـوله: «إذا أردنا أن ندرس الفكـر والنتاج الفكـري، فالواجب أن نـدرس اللـغة، وإذا أردنا أن ندرس اللـغة فعلـينا أن ندرس عملها في المجتمع»[19].
يمتاز الكلام بطبيعته الاجتماعية؛ فالكلام اجتماعي لأن العلامات تؤدي دور الوسائط، فهي تُشكِّل رابطاً أو جسراً بين الأشخاص الذين يتفاعلون في ما بينهم من طريق هذه العلامات. ويمتاز هذا الرابط بكونه قابـلاً للإدراك، كما بخصائص مادية دائمة[20].
على الرغم من أن اللغة غير مقصورة على البشر فحسب، فإننا نجد هـؤلاء مجهزين جينياً وثقافياً لاستعمال اللغة بغية إنجاز أفعال وتصرفات اجتماعية مختلفة[21].
لكن اللغة لا تتوسط العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص لحظة الحضور المباشر أو المشترك فقـط، بل تتوسطها – أيضاً – لحظة الحضور غير المباشر من حيث الـزمان والمكان؛ فالعلاقات الاجتماعية تتوسطها العلامات التي تصل الأشخاص بعضهم بعضاً، إذ تسمح لهم بالتعامـل معاً بعد تحقُّـق الفـهم، وذلك من خلال إدراك العلامات التي تصلهم في سياق «لقاء علامـاتي»[22].
ومن ثَم، فإن اللقاء وجهاً لوجه في إطار الحضور المشترك المباشر ليس هو الذي يخلق التفاعل الاجتماعي، على اعتبار أن السمع والمشاهدة لا يرتبطان باللقاء المباشر. فاللقاء يمكن أن يتم بدرجات متـفاوتة من المباشرية والفورية وبكيفـيات مختلفة، وبخاصة في عصرنا الإلكتروني؛ فالكثير من اللـقاءات تكون غير مباشرة [الحضور في وسائل الإعلام]، بمعنى أنها تتضمن وسائط تنقل الرسائل على نحو متسلسل أو عبر سلسلة من الأحداث التواصلية، حيث أصبح الآن مألوفاً بالنسبة إلى ملايين الأشخاص الاندماج في أدوار تفاعلية فردية بصورة متزامنة من دون أن يكون لهم علم بوجـود بعضهم بعـضاً[23].
في هذا السياق، فإن الحديث عن الأدوار التـفاعلية علاقـة باللغة، يعني – بشكل أو بآخر – الحديث عن اللغـة في المجال الاجتماعي، الأمـر الذي يُحـيل – بحسب نورمان فيركلوغ (Norman Fairclough) – على اللغة «كشـكل من أشكال الممارسة الاجتماعية» بحيث تتضمن هذه المقـولة ثـلاثة معطـيات:
– اللغة جـزء من المجتمع.
– اللغة ممارسة اجتـماعية.
– اللغة عملية مشروطة اجتماعياً؛ مشروطة بباقي المكونات [غير اللغـوية] للمجتمع[24].
إن تخصيص جزء من الكتابات للحديث عن العلاقة بين اللغة والمجتمع هو أمر مألوف، وكأن هناك وحدتين مستقلتين يجري الاتصال بينهما بين الفـينة والأخرى. لكن فيركلوغ يعتبر أنه لا توجد علاقـة خارجية بين اللغة والمجتمع، بل هناك علاقـة داخلية وجدلية. فاللـغة جزء من المجتمع، لأن الظـواهر اللغوية هي ظواهر اجتماعـية من نوع خاص، كما أن الظـواهر الاجتماعية – في جـزء منها – هي ظـواهر لغـوية[25].
الظواهر اللغوية هي ظواهر اجتماعية بمعنى أن الإنسان كلما تحدث، أو استمع، أو كتب، أو قرأ إنما يفعل ذلك بالطرائق المُحدَّدة اجتماعياً والتي لها آثار اجتماعية، وحتى في اللحظات التي يكون فيها الناس على وعي بشخصيتهم/بفرديتهم المستقـلة، وفي الوقت الذي يعتقدون فيه أنهم في منأى أو في معزل عن التأثيرات الاجتماعية – في الـوسط العائلي مثـلاً – فإنهم يستعملون اللغة بطرائق خاضعة للعرف الاجتماعي[26].
بهذا المعنى، فالظواهر الاجتماعية – بحسب فيركلوغ – هي ظواهر لغوية. ومن جهة أخرى، فإن «النشاط اللغوي» الذي يحدث في سياقـات اجتماعية – كما هو الشأن بالنسبة إلى أي نشاط لغوي – لا يشكل تعبيراً أو انعكاساً لعمليات وممارسات اجتماعية. إنه جزء من هذه العمليات والممارسات.
لكن الأمر لا يتعلق بعلاقة متماثلة بين اللغة والمجتمع – كمظاهر متكافئة لكلٍّ مستقل وأحادي – فالكل هو المجتمع، واللغة هي جزء من المجتمع. ولما كانت كل الظواهر اللغوية ظواهر اجتماعية، فليست كل الظواهر الاجتماعية ظواهر لغوية، على الرغم من أن الظواهر غير اللغـوية ذاتها [الإنتاج الاقـتصادي مثـلاً] تتوافر على عنصر لغوي جوهري وأساسي أحياناً، أو عنصر لغـوي يُستخف بقيمته، أو يساء تقـدير قيمته في أحايين أخـرى[27].
إن أهمية اللغة وسلطتها تتبدَّيان جـوهرياً في المجال الاجتماعي عبر الخصائص المتنوعة التي تتصف بها اللغة الإنسانية والتي تُحدِّد وترسم الخطوط الكبرى للعلاقات الاجتماعية[28].
من هذا المنطلق، فإن حيازة السلطة الاجتماعية التي تتوافر عليها اللغة من خلال مدخل التأثير كان موضوعاً للكثير من الدراسات. في هذا السياق، أبدى – بالز – في عمله الرائد بخصوص «العمليات التفاعلية» – ملاحظات مهمة، مفادها أنه لكي يكون المرء مؤثراً يجب أن يأخذ دوره في الحديث. لكن، إذا كان «تناوب الحديث» ضرورياً كشرط مسبق للتأثير، فإن السؤال الذي يمكن إثارته: كيـف يعمل المتحـدث على الحصول على دوره؟
إنه بحسب بروك وناج (Brook and Ng) فقد تبيَّن – بعكس أطروحة كارلي (Carli) – أن القدرة على حيازة الدور في الحديث هي المسؤولة عن تحصيل منسوب مرتفع من التأثير، وذلك في انتقاد للأطروحات التي تختزل تحقـيق التأثير اعتماداً على سلطة الأسلوب[29].
في الأبحاث الحديثة التي قام بها «رايد وناج» حيث تمَّ اختبار قدرة المتحدث على أن يصبح مؤثراً في مناقـشة تفاعـلية مع الجماعة، وتأسيساً على الأبحاث السابقة، خلص الباحثان إلى أن[30]:
1 – المتحدثين الذين يحوزون أدواراً كبيرة في الحديث يُنـظر إليهم باعتبارهم الأكثـر تأثيراً مقارنة مع ذوي الأدوار القـليلة.
2 – مضمون الكلام لا يُحَدِّد وحده الحوار أو يُوجِّهه؛ فهناك أدوار ومعطيات خاصة – بحسب المحتـوى – يمكن أن تــكون ذات صـــلة بمعطى التأثير، وبخاصــة إذا اتــبعنا «نظرية التصنيف الذاتي»؛ فالحوار – بمعنى آخر – يتحدد من السياق الاجتماعي للتـفاعل.
3 – قـدرة الشخص على حيازة الدور في الكلام – وتالياً النظر إليه كشخص مؤثـر – تتوقـف على محتوى الكلام الذي يجد أساسه في السياق الاجتماعي.
ولكي نفهم مقتـضى تأثير السياق الاجتماعي في تقـبُّل مضمون الحوار وتأويل متضمناته يورد فيركلوغ المثال التالي[31]:
(ش) = رجل شـرطة.
(هـ)= الشاهــدة.
1 – [ش] هل شاهدتِ الشخص الذي كان في السيارة؟
2 – [هـ] نعم، لقد رأيت وجهه.
3 – [ش] كم يبلغ عمره؟
4 – [هـ] حوالى 45 سنة، كان يرتدي…
5 – [ش] كم طوله؟
6 – [هـ] ستة أقـدام.
7 – [ش] ستة أقـدام؛ الشَّعر؟
8 – [هـ] أسود مجعـد؛ هل ستستمر هذه المـقابلة طـويـلاً؟
9 – [ش] لا. ليس طويـلاً. ماذا بخصوص ثـيابه؟
10 – [هـ] كان مظهره وضيعاً، سـروال أزرق، … أسـود…
11 – [ش] جـينز Jeans؟
12 – [هـ] نعـم.
العلاقة بحسب فيركلوغ غير متـكافئة، خاصة مع التحكـم القـوي لـرجل الشرطة في صيرورة المقــابلة ومساهمة الشاهـدة فيها، بحيث لا يكـلِّف نفسه عناء تلطيف الأسئلة التي من الممكن أن تكون ذات وقع سلبي على شخص شاهد للتو جريمة وحشية.
ويمكن أن نرصد – بحسب فيركلوغ – المظاهر التالية:
أ - سؤال الشرطي في الدور (1) مثلاً كان من الممكن تلطيفه من قبيل: هل استطعت مصادفة أن تحصلي على نظرة جيدة للشخص في السيارة؟
ب - في بعض الحالات تم تقليص الأسئلة إلى مجرد كلمات، أو إلى الحد الأدنى من الجملة: كم طوله؟ في الدور (5) والشَّعر؟ في الدور (7).
ج - يُلاحَظ أنه ليس هناك تعبير عن الشكر مقابل المعلومات التي قدمتها الشاهدة.
د – الطريقة التي تلقى بها الشرطي جواب الشاهدة في الدور (7).
هـ – حجم التحكم الذي يمارسه الشرطي إزاء مساهمة الشاهدة؛ فالشرطي قاطع الشاهدة في الدور (5) و(11).
وفي الدور (9) قدَّم الشرطي جواباً في حده الأدنى عن تساؤل الشاهدة حول المدة التي ستستغرقها المقابلة؛ حيث لم يعترف بوجود مشكل لدى الشاهدة، ووجَّه سؤالاً آخر على الفور مُغْلِـقاً المجال أمام استفسارها.
إن هـذه الخصائص يمكن تبريـرها بكونها اعتباطية على اعتبار أنها كان من الممكن أن تكون مختلـفة. لكنها ليست اعتباطية بحسب فيركلوغ؛ إنها محددة من قبل الشروط الاجتماعية. فكيف يمكن أن تفـسر الشاهدة غياب الشكر[32]؟
إذا حدث شيء مماثل في حوار ودي بين صديقين، يمكن أن يُفسَّر غياب الشكر كمُشكل حقـيقي يُشكِّل مؤشراً إلى الجحود أو عدم التصديق أو الارتباك، لكن غياب التعبير عن الشكر في الحالة أعلاه لا يُنظر إليه – بحسب فيركلوغ- كمشكل من طرف شخص معتاد على الأعراف الخاصة بهذه المقابلات.
يُبيِّن هذا المثال بحسب فيركلوغ، أن الطريقة التي يُفسِّر بها الناس المظاهر المهمة للنص تتَّخذ مظهراً اجتماعياً، بحيث تتوقف على «الأعراف والعادات الخطابية» التي يُفترض فيهم التقـيد بها والانضباط وفـقها.
في المجتمعات الإنسانية، تضفي بعض استعمالات اللغة الطابع الملموس على أصناف مُعيَّنة من الوقائع الاجتماعية؛ كإظهار علاقة شخص بالشخص المتحدث إليه، أو المتحدث عنه… في مثل هذه الحالات، يبدو أن بعض ملامح الكلام تصيغ صورة وصفية للمحادثة الاجتماعية المتشكلة عبر الكلام، فالصورة التي نُشكِّـلها حـول الناس إنما نُشكِّـلها انطـلاقاً من كلامـهم[33].
ثانياً: اللغة ومجال السياسة؛ حدود الامتداد السياسي «لمتغير» اللغة
لقد أصبحت دراسة اللغة أكـثر مركزية بالنسبة إلى الدراسات الأكاديمية التي تُعنى بالسياسة. مع ذلك، فعلماء السياسة من جهة أولى، وعلماء اللغة ومحللو الخطاب من جهة أخرى، يركـزون على مظاهر مختـلفة عند مناقشة العلاقـة بين اللغة والسياسة. إضافة إلى ذلك فإنهم يطبقـون نظريات ومناهج مختلـفة.
وإذا كان اهتمام علماء السياسة يرتبط بشكل أكـبر بنتائج القـرارات والأفعال السياسية بالنسبة إلى المجتمع – مع إمـكانية الاهـتمام بالوقائع/الحـقائق السياسية التي تتشكـل في الخطاب وعبره – فإن علماء اللغة يهتمون دائماً – وبشكل خاص – بالبنى اللغـوية المستعملة للحصول على رسائل «مناسبة» سياسياً من أجل إنجاز وظـيفة محـددة[34].
لكن الأمر الغائب – بشكل لافـت – في الدراسات التقـليدية حول السياسة هو الانتباه إلى كـون التصرفات/السلوكيات في «المستوى السياسي العام» هي حالياً نوع من الفعل اللغوي الذي هـو الخطاب. وبشكل موازٍ، فإن المؤسسات في المستوى السياسي العام هي نوع من الخطاب بمميزات خاصة؛ على سبيل المثال: المداولات البـرلمانية، والمقابلات الإذاعية…، كما أن الدساتير والقـوانين هي أيضا خـطاب، لكنها خطاب مكـتوب أو نـص من نوع دقـيق جداً[35].
وإذا كان المجال الخاص باللغة والسياسة يعاني خصاصاً مفرطاً من حيث الدراسة، فإن هذا المشكل الأساسي يؤول إلى طبيعة التعقيد الذي يُميِّز اللغة والسياسة. فقـد أصبح عدد متزايد من الناس معرضين للخطاب الذي يمكن أن يتَّسم بكونه سياسياً بالطبيعة. كما أن عدداً متزايداً منهم أصبح مرتبطاً ومشمولاً في حياته اليومية بالفعل السياسي من خـلال: مطالبتهم بالتصويت في الانتخابات، أو من طريق مشاهـدة الأخبار في التلـفاز، أو عبر قراءة الصحف، أو ببساطة، عبر التحدث إلى الأصدقاء حول النتائج أو الآثار الممكنة للقـرارات الحكـومية المتَّخذة حديثاً على الأفـراد[36].
لقد أصبحت حظوظ أو فرص كل شخص ليكون منخرطاً في الخطاب السياسي – بشكل أقل أو أكثر فاعلية – متنامية بشكل كبير، وبخاصة أن الحقل السياسي كما يقـول مارك أوجي (Marc Augé) هو بمثابة «حكومـة الكـلام» (Gouvernement de la Parole)؛ لكن حكومة الكلام ليست كل شيء في السياسة، على الرغم من أنه لا يمكن أن يكـون هناك فعل بدون قـول. فالكـلام يتدخل في ثلاثـة مجالات:
– يتدخل في مجال النـقاش لضمان تحديد «مثالية» غايات ووسائل الفعل السياسي.
– يتدخل في مجال الفـعل لضمان تنظيم وتنسيق توزيع الأدوار/الواجبات وإصدار القوانين، والقـواعد، والقرارات من جميع الأنواع.
– يتدخل في مجال الإقـناع لكي يستطيع «المنتدى السياسي» إقـناع «منتـدى المواطنين» بمزايا برنامجه المؤسس جيداً، وبقـراراته المتَّخذة في إطار تدبير تنازع الآراء من حيث الفـائدة والمكـاسب[37].
الأمـر الذي يـفرض مناقـشة «الكـلام» السياسي بين حقـيقة القـول وحقـيقة الفـعل؛ «حقـيقة الفـعل التي تتجلى عبر مقـولة «القـرار»، وحقـيقة النـقاش التي تتجـلى عبر مقـولة الإقـناع [نظـام الحجة/البرهان] و/أو مقـولة «الاجتذاب» [الاستمالة] Séduction [نظام الانفـعال]»[38]. إذ يَعتـبر شارودو أن اللـغة والفـعل مكـونين للتـبادل الاجتماعي يتمتّعان باستـقلال ذاتـي، لكنهما – وفي الـوقت نفـسه – يوجدان في علاقـة تـرابط متبادل وغير تماثـلي.
إن كل فـعل من أفـعال اللغة/كل أفعال اللغة تصدُر عن فاعـل لا يمكن تحديده إلا في علاقـته مع الآخـر وفـقاً «لمبدأ الغيرية»، في هذه العـلاقة مع الآخر ليس هناك توقـف عن «الاستدراج» وفقاً «لمبدأ التأثـير»، لكي يفكـر الآخر ويتـحدث، أو يفـعل بحسب نية وقصد الفاعل. مع ذلك، يمكن أن يكون للآخر بــرنامج خاص به للتأثير، لكن الاثنـين معاً يتم اقتيــادهما واستدراجهما لإدارة علاقتــهما وفـقاً «لمبدأ التنظيم»[39].
إن مبادئ الغيرية، والتأثير، والتنظيم هي مبادئ مؤسسة للفعل اللغـوي الذي يندرج في إطار فاعلي، في إطار تطبيق عملي للضغط على الآخـر.
وعليه، فإن البحـث عن اللـغة والسياسة والسلطة هو بحـث بشكـل أساسي عن المـظاهر المرتبطة باستعمال الإنسان اللغة من أجـل غايات وأهـداف سياسية. في هذه النقـطة يجب الإشارة إلى أنه غالباً ما يتـم التـعاطي مع موضوع اللـغة، كأداة يستـطيع بمقتـضاها الإنسان التأثيـر في الواقـع، في حـين يتـم التـعاطي مـع السياسة باعتـبارها السلـطة أو القـدرة التي يتوفـر عليها الفـرد للاشتغال على هذا الواقـع، ويعتـبر «بيلار غويتار إسكوديرو» – في هذا السياق – أن هـذا المنظور يجب أن يكـون حاضـراً في أي دراسة مرتبطة بموضوع اللـغة والسياسة[40]:
– في المقام الأول: المجال السياسي الذي تحوزه اللغة والذي لا يمكن إنكاره.
– في المقام الثاني: وجود استعمال لغوي مُعيَّن يحدث في إطار نشاط سياسي.
– في المقام الثالث: تأسيس علاقة بين كلا الفعلين [اللغوي والسياسي]، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة؛ كتجربة أو اختبار إضافي شاهد على التداخل الموجود بين اللغة والواقع، أو بشكل ملموس بين الاستعمال اللغوي والسلطة السياسية، وبشكل محدد بين الكلمة والفعـل.
1 – المجال السياسي للغة
يحيل «المظهر الاجتماعي» – في علاقته باللغة – وفقاً لـ «بيلار إسكوديرو» على «التأثير الذي يحاول المرسل ممارسته على المستقبِل بواسطة الكـلام». في حين يُقـصد «بالمظهر السياسي» «التأثير الذي يحاول ممارسته على بقية المجتمع، لكن انطلاقاً من وضعية مرتبطة بالسلطة، من أجل الحصول عليها أو المحافظة عليها، وأن يمارس فعـلاً محدداً انطلاقاً من السلطة التي تمَّ تحصيلها»[41].
على هذا الأساس، فإن الاختلاف بين ما هو سياسي وما هـو اجتماعي يتجلى من خلال سؤال النطاق والوعي؛ ذلك أنه في المستـوى الاجتماعي يكـون لممارسة السلطة أو محاولة التحكم مدى أقل، كما أنها تكون بكيفـية غير واعية، في حين نجد أن نطاق التحـكم في المستوى السياسي أكثر اتساعاً بحيث يُمـارس بمستوى وعيٍ أكـبر[42].
مع ذلك، فإن ما يَنْتـُج في الحالين هو وجـود عنصر مشترك كوسيط لممارسة التحكم، أي استعمال الكلمة، الاستعمال الملموس الذي يقـوم به الإنسان للجهاز اللغوي[43]: «فعندما نفكر في السياسة، فإننا نفكر بشكل أساسي بلغة الصراع على السلطة من أجل ضمان وصيانة أفكار ومصالح معينة ووضع هذه الأفكار والمصالح في مجال الممارسة، أي أجرأة هذه المصالح والأفكار على مستوى الممارسة»[44].
هذه العملية المرتبطة بإظهار الإرادة السياسية وتحويلها أو أجرأتها إلى/عبر فعل ملموس تتحقَّق ابتداء بين الأطراف السياسية، وفي هذه العملية تؤدي اللغة دوراً مهماً. في الواقع، كل فعل سياسي يتم تحضيره، ومرافقـته، والتحكم فيه، وضبـطه، والتأثير فيه بواسطة اللغة. ويمكن أن نضيف – بسهولة – أفعالاً أخرى إلى هذه القائمة مثل: يُوجَّه، يُفـسَّر، يُبرَّر، يتم تقـويمه، يُنتقـد…[45].
في هذا السياق، فإن دراسة الفكر السياسي الغربي تشي بوجود ترابط جوهري بين اللغة والسياسة، ولا يتم الإشارة عموماً إلى أن «أرسطو» عندما قـدَّم تعريفه الشهير للإنسان ككائن «طبيعـته» العيش في الدولة – المدينة، فإنه في اللحظة نفـسها، تحدث عن القـدرة الفردية للإنسان على الكـلام[46].
يقـدم «أرسطو» تعـريفاً كلاسيكياً للماهـية الإنسانية، مـؤداه أن الإنسان كائـن حي يمتلك «اللوغـوس»، لكن هذا المصطلح يعني على وجه الدقـة اللغة؛ فالإنسان قادر على التفكـير وقادر على الكلام، على اعتبار أن القـدرة على الكلام تعني القـدرة على إظهار ما هو غائب بشكل يستـطيع شخـص آخر أن يستحضره. هذا ما تتضمنه هذه الجملة البسيطة: «الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يمتـلك اللغة»[47].
ينظر «أرسطو» إلى ذلك من منظور غائي أو ما يمكن تسميته في بعـض فـروع الدراسات اللغوية المعاصرة بالمنظور الوظيفي، حيث يساعد الكلام على التعبير عن النافـع والضار، وعن العادل وغير العادل[48].
علاقة بذلك، فإن الظـواهر الملاحظة في المجال السياسي تبدو – بنسبة ساحـقة – نابعة من أفعال اللغة؛ فالسياسي لديه شعور بأن مجمل «القضايا» التي يتـعاطى معها لها نسق لغوي، كما أن الذين يتملصون من هذا التصنيف يبعثـون للناس – في أغلب الأحيان – إشارات ورموزاً[49]. بل إن الفعل السياسي نفسه يبدو أنه يتَّخذ كموضوع إنتاج اللغة والرموز من قبيل: النصوص القانونية، والدوريات الوزارية، ونصوص القرارات، ولكن أيضاً الخطاب، والمشاريع، والمذكرات، والبرامج، والاحتفالات[50].
ما هو واضح إذاً، هو أن النشاط السياسي لا يوجد بدون استعمال اللغة. صحيح أن هناك تصرفات وسلوكيات أخرى، لكن «أحداث» السياسة تتشكَّل غالـباً في اللغة[51].
إن هذا التداخل هو الذي حدا بـ ألفار (Alvar) على تأكيد أن «كل شيء لغة سياســية» ولاكوف (Lakoff) عندما دعمت ذلك بقولها: «اللغة هي التي تُوجِّه السلطة وتُفسِّرها»؛ «السياسة لــغة» و «A. Lopez Eire, y J. De Santiago» عندما تحدَّثا عن اللغة كمعطى سياسي، سواء تعلق الأمر بمحادثة مع صديق [ميكروسياسة] أو تعلَّـق الأمر بالخطاب السياسـي [ماكـروسياسة][52].
إن دور اللغة في بناء وتشييد الدول، على الرغم من أنه متغير أو متقلب، فهو أكثر حسماً من الدور الذي ينزع علماء السياسة والمؤرخون للتسليم به. فهناك الكثير من المراحل التاريخية كانت فيها الحدود اللغوية – ومثل هذه الحدود غير واضحة المعالم عموماً – لا تتطابق مع حـدود الحكومة – الدولة[53].
بالنسبة إلى أوروبا «يمكن للواحد منا أن يُعمِّم بأن اللغة أصبحت معياراً للهوية السياسية والإثنية فقط عبر «الممارسات الخطابية» المستمرة التي حدثت في القـرن التاسع عشر، فقـد ظهر بين النخبة الأدبية في دول مخـتلفة نصوص تُعزِّز الفكـرة القائلة بأن الهوية اللغوية أساسية للهوية السياسية»[54].
لكن الحديث عن المجال السياسي للغة يقـتضي ضـرورة الإشارة إلى أن الدعامات الرمزية التي تلجأ إليها الحياة السياسية وتستعين بها يمكن أن تكـون مختـلفة إلى أبعد حد، حيث نجد: الصور، والموسيقى، والمظهـر الخارجـي، والشـعارات، والمـلابس…، إلى حدود أن كل نتاجات النشاط الإنساني أو التي لها علاقة بالنشاط الإنساني يمكـن استثمارها بوساطة الفعل السياسي[55].
2 – المجال اللغوي للسياسة
من اللافت للنظر أن نجد رامون نيتو يُـقرُّ بأن لكل مهنة لغتها المتسمة بتقـنيات واصطلاحات يدركها ويجيدها المحترفـون والإخصائيون، لكن هذا الأمر لا يحدث مع السياسة التي لا تملك لغة خاصة. فاللغة السياسية ليست لغة تقـنية احتـرافية بل هي طريقة للكـلام، ذلك أن «السياسي له القـدرة والمهارة ليقول لا شيء بالحد الأقـصى من الكلمات، كما له القـدرة على ابتداع الكلمات، واستعمالها خارج السياق أو بمعانٍ خاطئة، وتشكيل جمل غير مفهـومة لغـوياً»[56].
يذهب هوكت (Hocket) في هذا السياق إلى أن اللغة تعني نظاماً يوفـر الكثير من الأمور من بينها الرموز، فاللـغة تجعل من الممكن التواصل بخصوص أشياء ماضية ومستقـبلية، وبخصوص الممكن والمستحيل، والمسموح به وغير المسموح به[57].
إن الناس كلما تواصلوا لغوياً، فإنهم يفعلون ذلك على أساس فرضية ضمنية، مفـادها أن الجميع يتعاون ويتشارك مع الآخرين لتبادل المعاني، وهذا المضمون يُشكِّـل تأويـلاً في حده الأدنى للمبدأ التعاوني لدى غرايس (Grice) [58].
يجعل التواصل اللغوي التفاعلَ السياسي ممكناً. ومن ثَم، فالربط بين اللغة والسياسة من حيث نشوء هذه العلاقة كممكن ينبع من حقيقة التواصل الذي يفتح كل إمكانية أمام الأخذ والرد في المستوى السياسي.
يُلـحُّ «تشومسكي» بكيفـية متكررة على أن اللغة ليس لها وظيفة التواصل فقـط، فالتواصل هو وظيفة واحدة للغة، ذلك أن التحليل الأداتـي للغة باعتبارها وسيلة للوصول إلى غاية معينة هو تحليل غير ملائم، بل إن ««اللعب اللغوية» (Language Games) التي أُنتجت لتوضيح هذه الوظيفة هي لعب مضللة ومخادعة»[59].
وعموماً، فإن «تشومسكي» عندما ينظر إلى اللغة كعنصر أساسي يُنقـل جينياً إلى الدماغ البشري، فإنه ينظر إلى اللغة باعتبارها متحررة من الإكراه الاجتماعي والسياسي. مع ذلك، وفي الوقت الذي بقي فيه النقاش مفتوحاً حول الـروابط الممكنة بين اللغة والمجتمع والسياسة، فقد بدا واضحا أن هناك خطين واضحين من الأفكار، وكلاهما يتوفـران على مضامين للتفكير بخصوص العلاقة بين اللغة والسياسة:
– تبعاً للخط الأول: فاللغة تتطور من تغيُّر جيني اعتباطي، فهي لم تنشأ من خاصيات سابقة لانبـثاق الدماغ البشري، لكنها قدرة جديدة كلياً وذات نوع محدد.
– تبعاً للخط الثاني: فاللغة تتـطور ارتباطاً بالذكاء الاجتماعي.
- اللغة في الخط الأول لن تكـون خاضعة للإكراهات الاجتماعية والسياسية.
- اللغة في الخط الثاني خاضعة للإكراهات الاجتماعية والســـــياسية[60].
ومهما يكن، فإن الاستخدام اللغـوي في السياسة يحتوي على أساليب وإجراءات محددة، إذ نجد من بينها تلك التي تحدث على المستوى المعجمي والدلالي، حيـث يتم استخدامها بِنيَّةٍ وهدفٍ محددين بالمسبق. مع ذلك، فإن الحديث عن اللغة السياسية كلغة تقـنية ليس صحيحاً بشكـل كلي، لأن الاصطلاحات المحددة والخاصة باللغات التقـنية – والتي تحدث في الاستخدام السياسي – تطرح بعض الاختلافات الواضحة من حيث الـدافع والمـرجعية[61]:
- أولاً: الإخـفاء والتكـتم/الحجب الدلالي الذي يأخذ مكانه في النشاط السياسي وهو مقـصود تماماً.
- ثانياً: العلامة/الإشارة اللغوية التي يتم تبنِّيها في السياسة لا تشارك بالصفة أو الميـزة الدلالية للعلامة التي تتـمُّ في ما يسمى باللغات التقـنية.
يبدو أن المعطيات الواردة أعلاه هي التي جعـلت كريستينا شافنير تُسلِّم جملة واحدة بالغمـوض والإبهام كصـفتين ملازمتين للـغة السياسية، والخـطاب السياسي، والنص السياسي[62]. فاللغة السياسية كانت دائماً غامضة «بعـض الشيء» ولا تشي بأسرارها إلا للمطلعين عليها، لكن الكلمة – بالنظر إلى الكثير مما قـدَّمت في نقـل الصور والأحداث – تبقى الوسيلة الأكثر تأثيراً[63].
في السياق نفـسه، لاحـظ فرنانديز لاغوينيلا (M. Fernandez Lagunilla) أن «المفـردات السياسية» لا يمكن أن تكون محددة بوضوح وصرامة كمجموعة متجانسة، حيث يُلاحَـظ أن هذه المفردات لا تعرف حدوداً معينة، إذ يُعـزى هذا الغياب – رفـقة أسباب أخرى – إلى أننا لسنا أمام اصطلاحات علمية، أو مصطلحات ذات مرجعيات واضحة ولا لبس فيها. على العكس من ذلك، فإننا نجد معجماً يتميَّز بطبيعته الغامضة جداً وبتعدد المعاني، ويتيح ذلك وفرة أو كثرة التأويلات المتعددة ابتـداءً[64].
وقد أشار فرنانديز لاغوينيلا في هذا السياق إلى بعـض الملامـح الخاصة بالمعجم الخاص بالمجال السياسي:
– في المقام الأول: حضور الانفعال/العاطفة والتأثير، إذ تُعتبر هذه الصفة السـبب المباشر لميزة الغموض، بالإضافة إلى تعدد المدلولات التي تحدث في الاستخدام اللغوي، وهي صفة تُبعد اللغة السياسية – في الوقت نفسه – عن ميزة المرجعية التي نجدها في اللغات الخاصة [التقـنية].
– في المقام الثاني: عـدم التجانس المرتبط – وخصوصاً – بالمدلولات أو المعاني المجازية[65].
لكن الحديث عن خصوصية «اللغة السياسية» لا يعني أنها لا تستعير الكثير من التعابير من حقول مختلـفة:
- حقـل المصـارعة: «المناوبة»/«التـناوب»؛ «قص الظفـيرة».
- حقـل الملاكـمة: «جسداً لجـسد»؛ «الإبقـاء خارج النزال».
- حقـل الطـب الصيدلي: «تيبس»؛ «تعب»/«عناء»؛ «إمساك»/«حصر»؛ «صدمة»؛ «إكسير»؛ «ترياق»؛ «جـرعة»؛ «مُسكن».
- حقـل الفيـزياء: «شفافـية»؛ «رجـعي»؛ «إعادة التـوازن».
- الحـقل الديني: «بشارة»/«بشرى»؛ «عقـيدة»/«مذهـب»؛ «انتهاك»؛ «دعاية»؛ «مستجد»؛ «كاريـزما».
- حقـل الهنـدسة المعـمارية: «وضع الحجر الأساس»؛ «القـبة»؛ «الأسس»؛ «صرْح»؛ «الـدعامات»/«الأعـمدة»[66].
في مناسبات أخرى نجد اللغة السياسية هي التي تُصدِّر عاداتها اللغوية، أو على الأقـل لا يتبدَّى بوضوح من يُصدِّر لمن، يحدث ذلك على سبيل المثال بين الأبعاد السياسية والقضائية بعبارات من قبيل: الشـرعية، والمساءلة، والتجـريد من الأهلـية… [67]
هكذا تبيَّـن حجم الارتباط بين اللغة والسـياسة أو بين استعمال اللـغة والسياسة. مع ذلك، فمن غير المعقـول المحاججة في كون أي استعمال للغة، أو كل استعمال للغة بالأحرى، هو استعمال سياسي، على الرغم من أن بعضهم قد يفـعل ذلك إذا كان يتبنَّى تعريفاً موسعاً كـفاية للفـظ السياسة[68].
بالتأكيد، فليـس كل البُنى اللغـوية لها وظيـفة سوسيوسياسية، لكن عندما نخـتبر ما يعرف بـ «الخطاب»، السياسي [المزدوجتين في الأصل] قد نواجه – بشكل متكرر – بعض الاستعمالات لبعض البُـنى اللغوية… ليس من الضروري أن نفـترض أن بنى اللـغة يجب أن تكون سياسية بكيفـية ضرورية ومتأصلة [مـلازمة]، لكن هذا لا يعني بأن مثل هذه البنيات – وبالخصوص في مظاهرها الـدلالية – لا تنشأ ابتداء من حاجات سوسيوسياسية[69].