دوجلاس إروين
تر: وفاء الريحان
لا تزال قضية العلاقة بين القيود التجارية والنمو الاقتصادي تشغل اهتمام الاقتصاديين منذ كتابات "آدم سميث". وقد قدمت موجة الإصلاح التجاري التي اكتسحت الدول النامية في الفترة من عام 1985 إلى عام 1995 أدلة تاريخية في فهم تلك العلاقة، وهو ما يحاول الباحثون تفسيره باستخدام مجموعة متنوعة من المناهج.
وفي هذا الشأن، تأتي الدراسة الصادرة في مايو الماضي عن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي للزميل غير المقيم بالمعهد "دوجلاس إروين" المُعنونة "هل الإصلاح التجاري يُعزز النمو الاقتصادي؟، التي تناقش سؤالًا مفاده: هل خفض القيود المفروضة على الواردات وغيرها من الحواجز التجارية يُساهم في زيادة النمو والاستثمارات في البلدان التي اختارت هذا المسار؟ وذلك في ضوء توافر بيانات إضافية لتقييم الإصلاحات التجارية التي تم إجراؤها في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن المنصرم، ومع ازدياد عدد الدول التي خاضت تجارب الإصلاح مقارنة بالفترات السابقة. فضلًا عن القدرة حاليًّا على استخدام أساليب تجريبية جديدة ومتنوعة تتجاوز الكثير من الأخطاء التي وقعت فيها الدراسات السابقة.
موجة تحرير التجارة
يوضح الباحث أن عددًا من الدول النامية اتّبعت مجموعة واسعة من السياسات التي قيدت الواردات خلال الفترة من الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، والتي تجاوزت التعريفات الجمركية على الواردات، لتتضمن ضوابط على صرف العملات الأجنبية، والقيود الكمية مثل حصص الاستيراد والتراخيص.
ويُضيف أن تلك البلدان بدأت في فترة لاحقة تقليل تلك الحواجز أمام التجارة. وكان من الأمثلة المبكرة على ذلك اقتصادات تايوان وكوريا الجنوبية وشيلي. وبعض الدول كالبرازيل وإندونيسيا والأرجنتين كان لديها أيضًا فترات من التحرير، تلتها العودة مرة أخرى للقيود بشكل أكثر صرامة.
ومع حلول عام 1985، شرع عدد من الدول النامية في موجة من الإصلاحات التجارية؛ حيث تحركت بسرعة لفتح أسواقها، من خلال خفض قيمة العملات وتوحيد أسعار الصرف، بما أتاح للمصدرين الاحتفاظ بأرباح العملات الأجنبية. كما تم تخفيض قيمة التراخيص والقيود الكمية. والشكل التالي يبين ازدياد عدد الدول النامية التي تحولت من كونها اقتصادات مغلقة إلى مفتوحة.
ويذهب الباحث في دراسته إلى أن تخفيض التعريفات لم يكن متماثلًا بالنسبة لكل المناطق؛ حيث بدأت دول جنوب آسيا –كالهند، وبنجلاديش، وسريلانكا- بتعريفات مرتفعة للغاية، وتم تقليلها بشكل حاد. وشهدت دول أمريكا اللاتينية وشرق آسيا تخفيضات كبيرة أيضًا. وعلى النقيض من ذلك، لم تُغير دول إفريقيا والشرق الأوسط سياساتها بنفس القدر، وهو ما يتضح في الشكل التالي.
وتُشير الدراسة إلى أن البنك وصندوق النقد الدوليين أيّدا بقوة هذه التحركات من جانب البلدان النامية لفتح أسواقها، وأعربا عن ثقتهما في أنه سيكون هناك مردود كبير عليها، بينما كان الاقتصاديون أكثر حذرًا في ذلك، وهو ما تم التعبير عنه في مقالتين تم نشرهما بمجلة "الآفاق الاقتصادية Journal of Economic Perspectives" خلال عام ١٩٩٢، أشار في أحدهما كاتبها إلى أنه في معظم البلدان التي أجرت إصلاحات تجارية جذرية في الثمانينيات من القرن الماضي، لا تزال الآثار المباشرة الناتجة عن تحرير التجارة غير مؤكدة.
محاولات تقييم
يقول "إروين" إن الباحثين استخدموا معادلات انحدار مختلفة للتقدير الكمي لمدى تأثير السياسة التجارية في النمو الاقتصادي. حيث يشير إلى أن باحثَيْن اقتصاديين عرَّفا الدولة على أنها مغلقة تجاريًّا إذا كان لديها واحد على الأقل من الخصائص الخمس الآتية:
- متوسط التعريفة 40% فأكثر.
- الحواجز غير الجمركية تغطي 40% فأكثر من التجارة.
- سعر الصرف في السوق السوداء أقل 40% من سعر الصرف الرسمي.
- احتكار الدولة للصادرات الكبرى.
- نظام اقتصادي اشتراكي.
وهنا يطرح الكاتب تساؤلًا حول أي المكونات الخمسة المذكورة هي الأكثر مسئولية عن النتائج. ويشير إلى أن باحثَيْن آخرَيْن وجدا أن التعريفة الجمركية لا تتمتع بأي قوة تفسيرية على النمو الاقتصادي، ولكن تشوهات سعر الصرف هي التي تفعل ذلك، كما حاولا وضع قياس مختلف للتعريفة اعتمادًا على متوسط التعريفة المقاسة بإيرادات الجمارك مقسومة على الواردات، فاستنتجا أن كلًّا من التعريفات وأسعار الصرف المشوهة لها تأثير سلبي على النمو.
وقد وُجِّهت الانتقادات للعناصر الخمسة للمقياس السابق باعتباره لا يستطيع أن يُقدم مقارنة لمعدلات النمو بين البلدان، بل هو مفيد فقط كعلامة على توقيت عملية الإصلاح التجاري في بلدٍ ما. وأوضحت الدراسة أن البلدان التي حررت التجارة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين لم تجنِ إلا القليل من المكاسب، مقارنة بالبلاد التي فعلت ذلك في الثمانينيات والتسعينيات.
طرق التحكم الصناعية
وفقًا للدراسة، يبدو التساؤل الأكثر وضوحًا هنا هو: هل يتم النموّ بشكل أسرع بعد فترة الإصلاح عن الفترة السابقة عليها؟ وتعتمد الإجابة على هذا السؤال على نمذجة واضحة لما كان يمكن أن يحدث للاقتصاد لو لم يتم الإصلاح التجاري.
وتقترح بعض الأدبيات الاقتصادية طريقة لإعداد سيناريو معاكس لتقييم فترة الإصلاح وهو "التحكم الصناعي"، ومُلخصه هو أن يتم تقييم تأثير الإصلاح في بلٍد ما أخذًا في الاعتبار مجموعة مرجحة من النتائج في البلدان غير المتبعة لبرنامج إصلاح، ولكنها تُطبِّق نفس مسار النمو للبلد الذي يتبع الإصلاح، ثم مقارنة النتائج.
على جانبٍ آخر، أشارت دراسات اقتصادية إلى أن البحث عن علاقة إمبريقية بين السياسة التجارية والنمو الاقتصادي أمر غير مجدٍ، وكانت أكثر تفاؤلًا بأن مناهج الاقتصاد الجزئي يمكن أن تكشف عن القنوات التي تؤثر بها السياسة التجارية على الإنتاج، وقد حققت أبحاث الاقتصاد الجزئي تقدمًا ملحوظًا في هذه المسألة.
وتتمثل إحدى فوائد ذلك النهج -كما قدمه الباحث- في أن اعتماده على تدابير محددة مثل التعريفات، يُقدِّم معلومات مفصلة عن الاختلاف في مستويات الحماية عبر قطاعات الاقتصاد المختلفة، وكيف تغيرت تلك الحواجز مع مرور الوقت.
وتُركز معظم الأدبيات على ما إذا كانت الرسوم الجمركية على السلع الوسيطة والنهائية تؤدي إلى تحقيق مكاسب داخل الصناعة التي يواجه بها المنتجون المحليون منافسة شديدة، ويمكن أن يؤدي تخفيض الحواجز التجارية إلى تحسين الإنتاجية بطريقتين؛ الأولى إجبار الشركات المتنافسة على أن تصبح أكثر كفاءة وتُخفض تكاليفها، والثانية أن زيادة التجارة في السلع الوسيطة للشركات المحلية تُتيح الوصول إلى مجموعة أكبر من السلع الوسيطة الأقل تكلفة، التي يمكن استخدامها لإنتاج سلع نهائية.
ويرى الباحث أنه في حين أن تخفيض التعريفات الجمركية على البضائع النهائية يزيد من ضغوط المنافسة على المنتجين المحليين لتحسين إنتاجيتهم؛ إلا أنهم يستفيدون من انخفاض الأسعار، وتحسين الجودة، وزيادة تنوع المدخلات المستوردة لرفع مستوى الأداء.
خلاصة القول، توصل الباحث في دراسته إلى أن الإصلاحات التجارية التي تُقلل التعريفة الجمركية على الواردات لها تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي، رغم أن هذه النتائج لا تسري على كل الدول، لكن في المتوسط تكون إيجابية. ويرجع هذا التأثير غير المتجانس بين البلدان إلى الاختلاف بينها في مدى إصلاحاتها، والسياق الذي حدث فيه الإصلاح. ومع ذلك، لا يزال هناك العديد من التساؤلات حول مقدار النمو الاقتصادي الذي يعقب إصلاح التجارة، الذي يُعزَى إلى التغييرات في السياسة التجارية فقط، دون الاعتماد على خيارات إصلاحات السوق الأخرى في الوقت نفسه.
المصدر:
Douglas A. Irwin, Does Trade Reform Promote Economic Growth? A Review of Recent Evidence, working paper, Peterson Institute for International Economics, Working Paper, May 2019.