"إذا كنتَ تريدُ السِلم فعليكَ أن تكون مستعدّاً للحرب"
جلال خشيب
كانت إحدى النتائج الواضحة التّي أفرزها –ولا يزال-حراك الجزائر القائم هي الاستقواء الحاسم للمؤسسة العسكرية بقيادة أركانها على مراكز القوى الأخرى التّي شكلّت النظام السياسي للبلاد طيلة عقدين ماضيين من الزمن تقريبا، فإلى الآن تُعتبر المؤسّسة العسكرية صاحبة الانتصار الأكبر في صراع الأجنحة الذّي يختفي تدريجيا لتتركّز عناصر القوة والسلطة في يدّ القيادة العسكرية القائمة.
وبالرغم من أنّ الجدل لا يزال قائماً بين المتابعين بخصوص قضايا عديدة تتعلّق بطبيعة القيادة العسكرية القائمة، قيمها، عقيدتها، مشروعها، دورها المستقبلي، نواياها ومدى استعدادها لمرافقة مطالب الحراك إلى النهاية فوضع البلاد على المسار الديمقراطي السليم، إلاّ أنّنا نعتقد بأنّ هناك إجماعاً سيكون بخصوص مسألة واحدة وهي عدم احتمالية حدوث تراجع في ميزانية المؤسسة العسكرية القائمة التّي تُباشر منذ فترةٍ طويلةٍ عملية تسلّحٍ هائلة ودعماً كميّا ونوعياً للقدرات الدفاعية للبلاد، فخلال السنوات القليلة الماضية تمكّنت الجزائر من المحافظة على المرتبة الأولى للبلد الأكثر تسلّحاً في القارة الأفريقية، إذ تتراوح نسبةُ استيرادها للسلاح حوالي 52% من السلاح الذّي تستورده القارة بأكملها حسب تقرير معهد ستوكهولم لسنة 2017، كما يرى التقرير بأنّ موازنة الدفاع في الجزائر قد حافظت على مستواها خلال السنوات الأخيرة وقُدِّرت بـ 10.1 مليار دولار خلال 2017، وهي تحتل المرتبة الـ 20 عالميا والثالثة عربيا.1 يأتي ذلك في الوقت الذّي تشهدُ فيه الجزائر على المستوى الداخلي منذ عقدين استقرارا أمنياً داخلياً ليس من شأنه أن يُبرّر مثل هذا التسلّح الضخم، كما تعرف البلادُ في المقابل مشكلاتٍ اجتماعية عميقة تكادُ تمسّ كافة القطاعات تستوجبُ تخصيص ميزانياتٍ ماليةٍ ضخمةٍ على غرار تلك المُخصّصة للتسلّح، أمّا على المستوى الخارجي فلا تخوضُ الجزائر حرباً ما خارج حدودها، كما لا يُوجد تهديدٌ كبيرٌ يُواجه الأمن القومي للبلد (على غرار ما تتعرّض له دولة كإيران مثلاً) إذ تعرفُ الجزائر علاقاتٍ دبلوماسية جيّدةٍ جدّا مع كافة القوى الكبرى -متضاربة المصالح- على حدّ سواء، كلُّ ذلك صار يُساهمُ بقوةٍ في طرح سؤالٍ جدّيٍ عن السبب الذّي يجعلُ الجزائر تجنحُ لمثل هذا التسليح الضخم. ستُحاول هذه الورقة أن تُعالج الأبعاد المختلفة لهذا التسلّح عبر الاستعانة بشيء من النظريات المُساعدة على التحليل، مُقسّمةً هذه الأبعاد عبر ثلاثة مستويات للتحليل، المستوى الدولي، المستوى الإقليمي والمستوى الداخلي المتعلّق بصنّاع القرار.
1. مَشاريعٌ دولية: التنافس الدولي في شمال أفريقيا:
تمنحُ الجغرافيا المُتميّزة لشمال أفريقيا أهميّةً حيويّةً لدولها في الاستراتيجيات الكبرى للقوى الدولية الفاعلة، فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين لم تصر فرنسا القوة الأجنبية الوحيدة صاحبة النفوذ هناك، إذ بدأت المعالم الأولى لنفوذ فرنسا الاستعماري القديم تتلاشى مع تنامي الاهتمام الأمريكي بالمنطقة بشكلٍ حصريٍ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بينما أدّى الانتعاش الجديد لقوى الشرق الصاعدة إلى ظهور منافسين جدد على المسرح الشمال إفريقي على غرار كلٌّ من روسيا والصين، ولن نبالغ إذا ما قلنا بأنّ تركيا أيضاً تُعتبر صاحبة نفوذ متنامي في المنطقة على حساب المستعمر القديم وبشكلٍ غير مسبوقٍ منذ انتهاء فترة الوجود العثماني هناك.
إنّ الأمر الذّي يُميّز علاقة الجزائر مع هذه القوى الفاعلة هو قدرتها الدبلوماسية على الحفاظ على مسافة واحد من جميع الفواعل الكبرى بالأخصّ الولايات المتحدة، روسيا والصين، إذ تحظى الجزائر مع هذه الدول الثلاث (صاحبة الاستراتيجيات المتنافسة بقوّة في العالم) بشراكةٍ استراتيجية بشكلٍ أنقذ الجزائر من الدخول في استقطاباتٍ ثنائيةٍ وصراعاتِ المحاور مثلما يحدث لمعظم دول “الشرق الأوسط” اليوم. تُعتبر روسيا المُورّد الرئيسي للسلاح الجزائري إذ يُمثّل السلاح الروسي أكثر من 75% من سلاح الجيش الجزائري، كما تستحوذ الجزائر على ما نسبته 52% من سوق السلاح الروسي في أفريقيا2، بينما تُعتبر الصين المستثمر الأول في البلاد متغلّبةً على فرنسا منذ سنة 2012،3 ومع كلاَ القوتين تحظى الجزائر بعلاقات تاريخية عميقة منذ أيّام الاحتلال الفرنسي للبلاد. أمّا بالنسبة للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فترى في الجزائر شريكاً مهمّاً للحفاظ على الاستقرار الأمني لمنطقة شمال إفريقيا، خاصةً بعدما اختبرت هذه الدول مؤخرّاً ما الذّي يُمكن أن يُحدثه وجود دولة فاشلة (ليبيا) على الضفة الجنوبية للمتوسط من مشاكلٍ أمنيةٍ متعدّدةِ الأشكال (جماعات إرهابية عابرة للقوميات والحدود، جماعات تهريب أسلحة، مخدرات وحتّى البشر، الهجرة غير الشرعية وغيرها من أشكال المخاطر والتهديدات المتنوّعة)، لذا فالجزائر بالنسبة لهذه الدول تُعتبر بمثابة دولةٍ حاجزةٍ مُهمّةٍ من الناحية الجيبوليتيكية.
وبالرغم من العلاقات الدبلوماسية والاستراتيجية الجيدّة للجزائر مع هذه الدول، إلاّ أنّ التنافس الحاصل بينها في منطقة شمال أفريقيا (خاصة بين فرنسا والولايات المتحدة) جعل هذه القوى تستغلُ بعض الخلافات الإقليمية للجزائر مع الجيران (مسألة الصحراء الغربية)· لأجل تحقيق بعض المكاسب السياسية أو الاقتصادية على حدّ سواء، فإذا ما رفضت الجزائر مثلاً الاستجابة لبعض القضايا المفروضة عليها من طرف هذه الدول، فسوف تتجّه هذه الدول إلى إظهار دعمها للموقف المغربي في قضية الصحراء الغربية، أو سوف تعمل على إثارة بعض المشكلات الأمنية على الحدود الجزائرية الليبية عبر توفير الدعم اللوجستي لبعض الجماعات الإرهابية العابرة للحدود على سبيل المثال أو كما فعلت مع اللواء حفتر قبل مدّة قصيرة، وهذا أمرٌ ليس بجديد خاصّة على دولة كالولايات المتحدة الأمريكية التّي تسلك سلوكاً مشابهاً في دعم جماعات إرهابية كالبي كا كا والبي ي دي ضدّ مصالح “حليفها” التركي في الشرق الأوسط على سبيل المثال.
ومن الأيام الأولى لوصوله إلى الحكم بالبيت الأبيض، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موقفه الصريح المنحاز إلى المغرب في مسألة الصحراء الغربية4، الأمر الذّي أثار مخاوف الجزائر من احتمالية تغيّر ميزان القوة في شمال أفريقيا لصالح المغرب. ربّما تُعتبر صفقات السلاح المهولة التّي أبرمها الجزائر مع روسيا نهاية العام المنصرم رسالةً لإدارة ترامب بأنّ للجزائر دوماً خياراتٍ استراتيجية بديلةٍ إذا ما تعكّرت العلاقات الثنائية بين البلدين بسبب مشكلة الصحراء الغربية، وهذا لن يكون في صالح الولايات المتحدة طبعاً التّي تستفيد كثيراً من المزايا الجغرافية التّي تحظى بها الجزائر في حربها على الإرهاب أو في استثمار بعض شركاتها النفطية بصحراء الجزائر، أو في إدارتها للأزمات في المنطقة على رأسها الأزمة الليبية الراهنة.
يقول خبراء في دراسة عسكرية أجراها مركز بحوث قوّات الجو الأمريكية بأنّ “طبيعة الأسلحة التّي تشتريها الجزائر من روسيا مؤخّراً أسلحةٌ استراتيجية، على غرار منظومات الدفاع “أس 400 تيرايمف” التّي تُنصّبُ احتسابا لمواجهة قوى كبرى، وبأنّ قوّات الجو الجزائري للدفاع عن الإقليم باتت من بين أفضل 10 منظومات دفاعٍ في العالم، الأمر الذّي يطرحُ أسئلةً مُحيّرةً عن السبب الذّي يدفع الجزائر إلى امتلاك دفاعٍ جويٍ بميزاتٍ مُماثلةٍ لا يجد له أيّ مبرّر سوى وجود مخاوفٍ جزائريةٍ من احتمال التعرّض لهجومٍ جوّيٍ مفاجئ من قوة كبرى.5 لاشّك بأنّ التوجّس الذّي ساد مؤخراً في عزّ الحراك القائم بين قيادات المؤسّسة العسكرية المنتصرة من احتمالية متابعة فرنسا لدورٍ تخريبي ما عبر الحدود الجزائرية الشرقية والجنوبية خصوصاً كردّ فعلٍ منها على تعرّض “أصدقاءها المحلّيين” للمتابعة القضائية بتزكية من قيادة الأركان، إمكانية تعرّض الجزائر لحصار دولي بقيادة فرنسا في حالة انفلات الأمور وما قد يتبعه ذلك من إمكانية الاستعانة المباشرة لقيادة الأركان بالحلفاء الروس التقليدين لهو أحسن مثالٍ مُعبّر عن مثل هذه التخوّفات الجزائرية من التعرّض لهجوم من قوة كبرى ما.
2. جوارٌ مُضطرب: الأزمات الإقليمية في المنطقة:
تُعدُّ الظروف الإقليمية المُحيطة بالجزائر أكبر مبرّرٍ للتسليح الذّي تُباشره منذ سنوات، إذ تُعتبر منطقة شمال إفريقيا منطقةً غير مستقرةٍ من الناحية الأمنية بالرغم ممّا تظهر عليه، فهي مُعرّضةٌ لاضطرابات أمنيةٍ شديدةٍ في أيّ وقتٍ نظراً لحجم المُشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التّي تعيشها شعوب المنطقة، العجز الديمقراطي لدولها، انتشار جماعات متطرّفة وأخرى إرهابية على طول المنطقة، بالإضافة إلى التنافس الدولي المخفي هناك. اليوم، تجد الجزائر نفسها محاطةً بسياجٍ من الأزمات من كلِّ الجهات: من الشرق تتشارك الجزائر مع دولة فاشلة أي ليبيا حدوداً بريّة قدرها 982 كلم، الأمر الذّي يجعلها في مهمّةٍ صعبةٍ جدّاً لتأمين هذه الحدود (الصحراوية الحارّة) التّي تعرف تنقّلاً نشطاً لجماعاتٍ إرهابيةٍ كثيرةٍ على غرار جماعة “القاعدة في المغرب الإسلامي”، هذا وبالإضافة إلى حدودٍ بريّةٍ مع تونس قدرها 965 كلم، وكما هو معلوم، فإنّ هذا البلد يشهدُ اضطرابا سياسياً داخلياً منذ سنة 2011، جلب تدخلاتٍ سياسيةٍ من أطرافٍ خارجيةٍ عقدّت من الوضع الأمني هناك. أمّا من جهة الغرب فتُوجد المغرب، والحدود بين البلدين مُغلقة منذ سنة 1994، والعلاقات متوتّرةٌ بسبب أزمة الصحراء المتنازع عليها.
أمّا من الجنوب فالجزائر تتشاركُ حدوداً ضخمةً جدّاً مع كلٍّ من مالي (1376 كلم) والنيجر (956 كلم)، وهي حدودٌ أيضاً تعرفُ نشاطاً غيرَ مسبوقٍ لجماعاتٍ انفصالية وإرهابيةٍ تنتقلُ بسهولةٍ على طول دول الساحل الإفريقي، وربّما نكتفي هنا بالإشارة إلى جماعة الأزاواد الانفصالية وأقليّة الطوارق أيضاً التّي تريد إقامة دولةٍ لها تشملُ جزءاً من حدود الجزائر الجنوبية. لذا، فالإقليم الواسع الذّي تحظى به الجزائر والحدود المشتعلة التّي تُحيط بها (7 آلاف كلم حدود بريّة)، تفرض عليها أن تكون مُتأهبّةً على الدوام، خاصةً بعد حادثة اختطاف الرهائن بمنشأة تيغنتورين للغاز الطبيعي بمنطقة عين أميناس بعمق الصحراء الجزائرية سنة 2013، حينما شنّت جماعةٌ إرهابيةٌ هجوماً على المنشأة واعتقلت عدداً من الرهائن الجزائرية والأجنبية، حينها ردّ الجيش الجزائري بكلّ قوّةٍ من دون تفاوضٍ مع الإرهابيين مُنهياً الأزمة بتصفيتهم، وقد راح ضحيتّها العديد من القتلى الرهائن. بناءً على ما سبق، فلنتصور الكم الهائل من الجنود المرابطين على الحدود ومن العتاد الحربي الذّي تحتاجه الجزائر لتأمين نفسها من هذه مثل المخاطر والتهديدات غير المنتهية!
مُعضلةٌ أمنيةٌ وليس سباقَ تسلّحٍ: أزمةُ الصحراء الغربية:
على المستوى الإقليمي دوماً، كثيراً ما يُخطئ المحلّلون في وصف حالة التوتّر القائمة بين الجزائر والمغرب والتّي تدفعُ كليهما لاتخاذ إجراءاتٍ دفاعيةٍ بكونها سباقاً للتسلح، فهوّةُ التسلّح بين الطرفين تنفي كونه سباقاً بينهما. تُعتبر الجزائر كما أشرنا سابقاً البلد الإفريقي الأكثر تسليحاً، إذ تحظى بنسبة 52% من السلاح الذّي تستورده القارة السمراء حسب تقرير معهد ستوكهولم، بينما تحتل المركز السابع عالميًا من حيث الاستيراد، كما يرى التقرير بأنّ موازنة الدفاع في الجزائر قد حافظت على مستواها خلال السنوات الأخيرة وقُدِّرت بـ 10.1 مليار دولار خلال 2017، وهي تحتل المرتبة ال 20 عالميا والثالثة عربيا6، في حين تُقدّر ميزانية الدفاع المغربية 3.4 مليار دولار وتحتل المرتبة 55 عالميا،7 فالهوّة العسكرية ضخمةٌ جدّاً بين البلدين لصالح الجزائر، لذا لا يُمكن وصف حالة التوتّر القائمة بينهما بأنّها حالةُ سباقُ تسلّحٍ.
إنّ أنسب وصفٍ في نظرنا هو وصفُ “المعضلة الأمنية”، وهو المصطلح الذّي ابتكره سنة 1950 الباحث الأمريكي جون هيرتز John Herz ، وهي حالةٌ مختلفةٌ تماماً عن سباقِ التسلّح، وتعني الحالة المستمرة من الشكّ واللايقين في المدركات الأمنية لصنّاع القرار في بلدين (مجاورين عادةً) تجاه بعضهما البعض، في هذه الحالة فإنّ الإجراءات الأمنية والعسكرية التّي يُقدم عليها أحد البلدين (كمسألة شراء الأسلحة مثلاً) لأجل أسباب يعتبرها دفاعيةً، تُؤّوَلُ في الجهة الأخرى بأنّها إجراءاتٌ هجومية يسعى من خلالها ذلك الطرف إلى تهديد الأمن القومي له، وبالتالي تتطلّب إجراءاتٍ أمنية وعسكريةٍ مماثلةٍ، هنا تلعب المدركات الأمنية لدى صانع القرار كما قُلنا الدور الأهم، وهذا ما ينطبق تماماً على الحالة التّي تعيشها كلٌّ من الجزائر والمغرب منذ سنوات.
يُمكن القول بأنّ قضية الصحراء هي الساحة التّي تتنافس فيها كلٌّ من الجزائر والمغرب على المكانة الإقليمية، وإذا كانت الجزائر تعتمدُ في ذلك على ميزانيةٍ ضخمةٍ مُخصّصةٍ للإنفاق العسكري بفضل ثرائها النفطي، فإنّ المغرب يعتمدُ في ذلك على نسجِ شبكةٍ من التحالفات الإقليمية والدولية لمحاصرة الجزائر، من خلال تقديم تنازلات ما على أراضيه لهذه الأطراف (مثلاً اعترافه بدولة الكيان الصهيوني وإقامة سفارة لها على أراضيه في الوقت الذّي تعتبر الجزائر هذا الأمر خطّاً أمراً بالنسبة لها)، فالمشاريع التّي قد ترفض الجزائر تمريرها بشمال إفريقيا، قد يوافق عليها المغرب بسهولة (مثلاً مشروع الطاقة الشمسية الألماني).
هناك أيضاً سابقةٌ تاريخيةٌ سلبيةٌ في ذاكرة صنّاع القرار الجزائريين، حينما حاول المغرب سنة 1963 اجتياح أراضي جزائرية مجاورة له (منطقة تيندوف) بعد استقلال الجزائر مباشرة فيما سُميّ “بحرب الرمال” وفشل في ذلك، منذ ذلك الوقت تتأهبُ الجزائر عسكرياً وتنفقُ أموالاً طائلةً على السلاح درئاً لتكرار سيناريو مماثل في المستقبل إذا ما تحوَّلَ ميزان القوى يوماً ما لصالح المغرب وأخذ الأخير أفضليةً ما على حساب الجزائر. علاوةً على ذلك، فقد اتخذت الجزائر إجراءً استباقياً في هذا الصدد، حينما تمسكّت بدعم الشعب الصحراوي ضدّ الاحتلال المغربي لأراضيه، إذ تنفق الجزائر سنوياً مئات الملايين من الدولارات لتدريب وتجهيز المقاتلين الصحراويين وإيوائهم وتدريسهم، ولقد نجحت الجزائر إلى حدٍّ بعيدٍ في ذلك بإشغال المغرب بقضيةٍ أخرى تُهدّد أمنه القومي كما يعتقد، تُغنيه عن التجرأ مجدّداً على سلوكٍ عدواني ضدّ جاره الجزائر، فضلاً عمّا قد تكتسبه الجزائر من أفضليةٍ جيوبوليتيكيةٍ إذا ما نالت الصحراء الغربية إستقلالها يوماً ما، إذ يصير للجزائر منفذٌ آخر على المحيط الأطلسي، وهو ما قد يُقدّم لها خدماتٍ عسكريةٍ لوجستية في أفريقيا بل ومزايا اقتصادية كبيرة أيضاً.
3. نُخبٌ عسكرية: الطبيعة العسكرية لصنّاع القرار بالجزائر:
يتميّزُ النظام السياسي الجزائري بطبيعته العسكرية، فمنذ استقلال الجزائر إلى اليوم يتحكّمُ الجنرالات في القرارات الكبرى للجزائر من وراء الستار، وليس للمدنيين دورٌ مهمٌّ في ذلك (باستثناء مرحلة الرئيس بومدين الذّي كان عسكرياً في الأصل، أو مرحلة بوتفليقة الذّي تمكّن إلى حدٍّ ما من تحييد سلطة الجنرالات)·، لذا فالعقلية العسكرية لصانع القرار الجزائري ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في ارتفاع متتابعٍ لحجم الميزانية العسكرية للبلاد على حساب الميزانية المُخصّصة للقطاعات الأخرى، فبحسب قانون المالية لسنة 2018 الذّي أقرّ ميزانيةً للتسيير تُقدّر ب 39,93 مليار دولار، تستحوذُ ميزانية الدفاع الوطني وحدها على 9,92 مليار دولار منها أي ما نسبته 25% من ميزانية تسيير الدولة،8 (1/4) وهي نسبةٌ ضخمة جدّاً مقارنةً بما تحظى به الوزارات الأخرى.
أيضاً، وبنفس الطريقة التّي تلعب فيها المدركات الأمنية لصانع القرار الجزائري (تجاه المحيط الإقليمي المليء بجيرانٍ يعيشون اضطرابات أمنية) دوراً مهمّاً في عقدهم لصفقات تسليحٍ مستمرة، فإنّ الوضع الأمني الداخلي الذّي لا تزال البلاد تعيشه اليوم يفرضُ هذا الأمر أيضاً ولو بدرجةٍ أقلّ. لقد عاشت الجزائر عقداً كاملاً من الاضطراب الأمني والإرهاب الدموي، وبالرغم من تجاوز البلاد لتلك المرحلة بشكلٍ كبيرٍ جدّاً إلاّ أنّ خلايا الإرهاب لا تزال في حالة نشاطٍ بين الفينة والأخرى ولو بمستوى متدّني جدّاً، على سبيل المثال، وفي نهاية شهر يوليو من العام الماضي، خاض الجيش الجزائري عمليةَ تمشيطٍ واسعة النطاق شمال شرق البلاد بعد استشهاد 7 جنود جزائريين بفعل هجماتٍ إرهابية شُنّت ضدّهم هناك، إذ صارت مثلُ هذه العمليات عملياتٍ متكرّرة تستهدف قوات الشرطة والجيش بشكلٍ خاص، وهذا ما يدفع دوماً بالمسؤولين العسكريين إلى المحافظة على وتيرة تسليحٍ ثابتة تحسّباً لمثل هذه العمليات.
بالإضافة إلى عمليات مكافحة الإرهاب في الداخل التّي تُبرّرُ استمرار ارتفاع ميزانية الدفاع، فإنّ هناك ظروفاً اجتماعية واقتصادية سيّئةً تعيشها البلاد منذ سنوات تستوجبُ قبضةً أمنيةً قويّةً حسب ما يرى صنّاع القرار، على غرار الإضرابات المستمرة التّي تُباشرها كافة القطاعات كقطاع التعليم، الصحة ونقابات العمّال وغيرها، حتّى قبل حراك 22 فيفري، والتّي يرى النظام السياسي بأنّها قد تُستغل من طرف جهاتٍ أجنبيةٍ معاديةٍ لأجل زعزعة الاستقرار السياسي والأمني للبلاد، لاسيما بعدما خَبِرَ أمثلةً مشابهةً في جواره الإقليمي أي ليبيا، أو “منطقة الشرق الأوسط” على العموم فيما يُسمى “بثورات الربيع العربي”.
في النهاية نقول، إنّه ما دام الفاعل العسكري لا يزال مهيمناً على القرار السياسي للبلاد، فإنّ “ظاهرة العسكرة” هذه سوف تستمر، ويستمرُ معها التسليح الضخم أيضاً، كما ستبقى بعضٌ من الشخصيات العسكرية أو المدنية المرتبطة بها مستفيدةً بشكلٍ كبيرٍ من الناحية الشخصية (الحصول على عمولات لتمرير صفقاتٍ ما دون أخرى) أو من الناحية المهنية (تثبيت موقع القوة داخل النظام) من جرّاء مثل هذه الصفقات المهولة للسلاح، إلاّ أن يتمخّض الحراك القائم عن نظامٍ سياسيٍ يتحلّى بشرعية الصندوق ويرسم لكلّ مؤسّسةٍ حدود قوتّها، سلطتها وصلاحياتها التّي يخوّلها لها الدستور.
الخاتمة:
بناءً على ما سبق، نخلصُ إلى وجودِ أبعادٍ مركّبةٍ تقفُ وراء تسلّح الجزائر عسكرياً بهذه الضخامة، وهي أسبابٌ مُتكاملة، فالميزة الجغرافية للجزائر والجغرافيا المُضطربة المحيطة بها أيضاً تفرضُ عليها الاضطلاع بمسؤولياتٍ إقليميةٍ كبرى تستوجب استعدادا عسكرياً جيّداً، فضلاً عن التنافس الدولي بشمال إفريقيا الذّي يستوجبُ اعتمادا ذاتياً لمواجهة أيّة طموحاتٍ خارجيةٍ تُهدّد أمنها القومي، بشكلٍ يُذّكرنا بالمقولة العسكرية الكلاسيكية –للجنيرال الروماني فيجيتيوس- والتّي يستخدمها الواقعيون كثيراً في أدبيّاهم: “إذا كنتَ تريدُ السلم، فعليكَ أن تكون مستعدّاً للحرب”، كما تلعب العقلية العسكرية لصانع القرار أيضاً دوراً أساسياً، فهي التّي تُشكّل المدركات الأمنية، تميّز الصديق عن العدو، وتحدّد العقيدة العسكرية للبلاد.
لكن، وقبل إنهاء هذه الورقة، ينبغي توضيحُ نقطةٍ مهمّة للقراء، وهي تلك المتعلّقة بعلاقة هذا التسلّح الضخم بالوضع السياسي، الاقتصادي والاجتماعي السيئ الذّي تعيشه البلاد. إنّه لمن الطبيعي أن ترتفع ميزانية التسلّح لأيِّ دولةٍ تحملُ مسؤولياتٍ إقليميةٍ أو عالميةٍ، فأكبر ميزانية دفاعٍ في العالم (أكثر من 600 مليار دولار سنوياً) تعود لأكبر دولة متقدّمة في العالم أي الولايات المتحدة، كما تحظى الصين بثاني أكبر ميزانية تسلّح في العالم (أكثر من 200 مليار دولار سنوياً) مع ذلك فهي تمتلكُ اقتصادا ضخماً وتشهدُ أكبر ثورةً تكنولوجيةً معاصرةٍ تعرفها البشرية.
ما نريد المحاججة به هنا هو عدم وجود علاقة حتمية بين تخصيص الدولة لميزانيةٍ عسكريةٍ ضخمةٍ وبين درجة تخلّفها الحضاري أو مستوى ديمقراطيتها الهشّة، لذا فمن الخطأ الربط الحتمي بين تخصيص الجزائر لميزانيةٍ ضخمةٍ للتسلّح وبين حالة الديمقراطية المتدهورة بها أو المستوى الاجتماعي والاقتصادي الهشّ التّي تعرفه، فالأمر راجعٌ حتماً لعدم اهتمام النظام السياسي الجزائري بالقطاعات الأخرى غير وزارة الدفاع. إنّ الثروة الطبيعية التّي تحظى بها الجزائر والثروة البشرية الموازية بكفاءاتها، لهي أمرٌ كفيلٌ بإحداث نهضةٍ غير مسبوقة في القارة الأفريقية على أرض الجزائر من شأنها أن تُطوّر مفهوم الأمن القومي في أذهان صنّاع القرار بالبلاد ليتجاوز مُجرّد الجانب العسكري المحض إلى أمنٍ شاملٍ ومُركّبٍ يشملُ كلّ القطاعات وينطلقُ قبل كلِّ شيءٍ من الإنسان، وها قد جاءت فرصة الحراك المليوني الحضاري الذّي تشهده الجزائر منذ يوم الثاني والعشرين من فبراير الماضي لتكون فرصتنا التاريخية الحاسمة لوضع البلاد على المسار الصحيح والمأمول.9