التحليل السياسي: تحقيق في اسباب الظاهرة السياسية ونتائجها (دراسة حالة الأزمة الخليجية)
International Politics
التحليل السياسي: تحقيق في اسباب الظاهرة السياسية ونتائجها
عمر عبد الستار محمود
قد نحاول تجاهل السياسة, لكننا لايمكن تجنبها في وقت بات من الضروري للجمهور العام فضلا عن النخبة فهمها.
وربما يستطيع اي احد ان يفهم السياسة بقدر ولكن السياسة علم من اكثر العلوم تعقيدا وعالم غاية في التعقيد.ومن هنا فان التحليل السياسي يحاول قراءة عالمها غير اليقيني بعدسات علوم السياسية المتطورة والمتعددة في تخصصها للوصول لدرجة من اليقين.
وقد بات التحليل السياسي حاجة ضرورية للجمهور العام ونخبته ولعلوم السياسة وطلابها وللممارسة السياسية وصناعها.وتعود حاجة الاطراف الثلاثة لتعقد الظاهرة الاجتماعية وتعدد اطرافها واختلاف مصالحهم ومواردهم وصراعهم المستمر نحو الهيمنة.
وفي خضم تعقيد عالم السياسة وعلومها قد يلجا البعض للتبسيط المخل.ولكن بعض التبسيط في هذه المهمة امر ضروري.وهذا البحث محاولة لتبسيط المعقد دون اخلال باسس واهداف ومؤهلات ومهارات التحليل السياسي.
ولعل هذا البحث يساهم في فتح شهية هذا الجيل ان يتخصص في علم الاجتماع والعلاقات الدولية بما يؤهله لا دراك سنن حراك المجتمعات والمتقاطع محليا واقليميا ودوليا,كشرط من شروط اعادة البناء بعد النقض التاريخي الذي تتعرض له المنطقة.
1- تعريف السياسة
ازمات بلا حدود واحتمالات بلا قيود وقرارات بلا يقين
السياسة ارقى انواع التفكير الانساني وهي فلسفة وعلم وفن مارسه الانسان منذ وجد على سطح الارض.واختلف تعريف السياسة من فيلسوف إلى آخر ومن مذهب سياسي إلى غيره.وسوف نتطرّق هنا إلى آراء بعض الفلاسفة حول نظرتهم لمفهوم السياسة الذي يعتبر اساس في مهمة التحليل السياسي.
فقد عرف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو السياسة ،بانها *الاسم الذي يُطلق على وضعيّة استراتيجيّة مُعقّدة في مجتمع معيّن،مرتبطة بمفاهيم الحرب والهيمنة داخل القوى المجتمعية وان الحياة وليس الحق هوالذي يشكل الرهان السياسي لهذه القوى [1].
اما قاموس العلوم الاجتماعية لعام 1959 فانه يعرف السياسة بانها *تلك العمليات الصادرة عن سلوك الانسان التي يتجلى فيها الصراع حول الخير العام من جهة, ومصالح الجماعات من جهة اخرى,ويظهر فيها استخدام القوة بصورة او اخرى لانهاء الصراع او تخفيفه او استمراره [2].
واما معجم ليترا فقد عرف السياسة في عام 1870 بانها *علم حكم الدول*. بينما عرفها معجم روبير في 1962 بانها *فن حكم المجتمعات الانسانية*.اما عالم السياسة الفرنسي موريس ديفرجيه فيعرف السياسة بانها *صراع متواصل بين فئات اجتماعية تسعى لبسط سيطرتها والتحكم في مصير المجتمع كله[2].
اما الان فينلايسون بروفيسور النظريات السياسة والاجتماعية في المملكة المتحدة فيعرف السياسة انها ” فن التوصل بشكل تعاوني الى قرارات عما يجب فعله في سياق من الاختلاف وصراع المصالح وعدم المساواة في القوة وعدم اليقين والمخاطرة”[3].ويؤكد بول تشيلتون مضمون هذا التعريف فيقول *ان السياسة هي صراع من اجل السلطة ومن جهة اخرى انها حل لتضارب المصالح[3].
وخلاصة القول في التعريف اعلاه ان السياسة تعاون من جهة وصراع من جهة اخرى بين اطرف الظاهرة الاجتماعية في ظل ازمات مستمرة.والتعاون والصراع بين هذه الاطراف وجهان لعملة علم وعالم السياسة واساس في النظرية السياسية المؤدية لتسويات السياسية او نزاع او بين هذا وذاك في مسلسل دائم التغير وحتى ما نسميه استقرارا اجتماعيا إنما هو توازن قوى، وهو ليس توازنا سكونيا بل حركيا[4].
وبكلمات اخرى فالسياسة حالة تعايش مستمرة بين التعاون من جهة والصراع من جهة اخرى.فالتعاون هو استعراض للقوة السياسية التي تصاغ فيها الخيارات بطريقة يظهر فيها الصراع ويرضخ الناس لهيمنة تلك القوة وقيمها ومصالحها.
قوة وقيم ومصالح تنقل صاحب القرار السياسي من ظرفه زمانا ومكانا الى هدفه من خلال قرارته التي درست الخيارات المتاحة واختارت انسبها.فلا سياسة بدون خيارات ولا سياسة بدون ازمات بل ان الازمات هي معقلن غير عقلاني لعمل سياسي غير مستقر ابدا تشكل الخيارات ركن ركين من اركانه[3].
وخلاصة القول ان جذر السياسة ازمات بلا حدود وخيارت بلا قيود وقرارات بلا يقين بسبب وجود منافسين يفكرون بطرق مختلفة ولهم قيم ومصالح مختلفة ويبحثون في اتخاذ قرارات في ظل معلومات منقوصة دون معرفة اكيدة بطبيعة الظروف وماهي افضل طريقة للعمل وما الاثار التي تنجم عن اي عمل سياسي.
وحتى يخرج صاحب القرار السياسي بخيار محدد فعليه ان يدرس كافة الخيارات المطروحة و الاسباب التي تؤيد وتعارض كل خيار حتى يستقر وفق ظرفه وهدفه وموراده وتحالفاته على قرار.
وهذا يعني ان اختيار الخيار المناسب يحتاج عملية تداول وتفاعل وصراع بين فواعل سياسية يمتلكون خيارات وخيارت بديلة وقدرات غير متساوية واهداف وقيموقرارات مختلفة في ظرف زماني ومكاني محدد ضمن وحدات النظام الدولي الموجود للوصول الى خيار وقرار.
واتخاذ القرارت اذن هو عمل عدائي يدافع به الفاعلون عن توجهات متضاربة في جو من عدم اليقين مع وجود بدائل في مواجهة الازمات.ومن هنا يحتاج الفاعل السياسي الى الات التفكير النقدي التي تدفع به ان يطرح اسئلة متعددة عن ماهية القيم والاهداف والمصالح التي تحدد قراراته في هذه الازمة او تلك.
فالتفكير النقدي هو جوهر السياسة الحقيقية التي تضع الفاعل السياسي وجها لوجه امام سنن الواقع السياسي وهذا من شانه ان يدفعه نحو الابتكار في السياسة ابتكارا يستند الى اشكال جديدة وخيارات متعددة كاساس لاتخاذ القرار السياسي. فاذا اضفنا للتفكير النقدي عدسات التنظير السياسي فقد حاز الفاعل السياسي كما المحلل السياسي على عدته في الممارسة السياسية وفي التحليل السياسي.
بعد هذا التعريف والتمهيد الموجز لعالم الظاهرة السياسية وعلومها نتطرق في القسم الاتي الى اسس الظاهرة السياسية التي تساعد في التحليل السياسي كما ساعدنا تعريف السياسة.
2- اسس الظاهرة السياسية
*المصلحة لا تتغير بتغير الزمان والمكان*
الاساس الاول:
للواقع نظرية سياسية
نظريات الواقع السياسي هي الالة السياسية التي تفرق بين الوقائع الموضوعية والانطباعات النفسية او الفكرية.وقوانين الواقع تربط العقل *وليس النفس* بالواقع وتعطي علما بوقائعه وحقائقه وتساعد في ربط احداثه وصراعاته للخروج باطار نظري تفسر به الاحداث.
والاطار النظري مثل عدسة الكاميرا التي تنظر بها لمجرى الاحداث لتقدم تصورا نظريا لمجراها المعقد[7].ودونها لايمكن بحال ان نميز بين الحقائق السياسية وغير السياسية. ومن هنا جاءت نظريات العلاقات الدولية لتقديم رؤية واقعية موضوعية متماسكة لتفسير الاحداث واستنباط بوصلة اتجاهها بعيدا عن الانطباعات النفسية.وسنتحدث عن هذا الموضع باسهاب في مؤهلات التحليل السياسي النظرية.
الاساس الثاني:
الواقع محايد والمعضلة في تنميطه
ما هو الواقع؟ ما هي مقاييس الواقع ؟هل الواقع عكس الخيال و الماضي و المستقبل؟ما هو الفرق بين الواقع و الخيال؟ هل الواقع هو ما تقرره المعايير الاجتماعية ؟ هل العقلية الجماعية صالحة ؟ يقول Braudel فيلسوف فرنسي معاصر : إن مفهومي الموضوع و الموضوعية يختلفان حسب العصور التاريخية و الأشياء تكون موضوعية أو لا تكون إذا ما كانت مطابقة أولا للنظرة الخاصة التي تنظر بها الحضارات المعنية المختلفة الواقع[18].
يقول هيجل” كل شيء واقعي هو عقلي و كل شيء عقلي هو واقعي ”. لكن ما هو الواقع عند رجل الدين ؟هو التفريق بين واقعين,واقع دنيوي و واقع اخروي.هذا الأخير يمتاز بواقعية لأنه أزلي فالساعة قائمة لا ريب فيها عند رجل الدين .
هذه التساؤلات تقرر أن الواقع هو كل الحالات والظروف والأشياء والأشخاص و الأماكن.
وانه منظومة مبنية(تنميط او تعليم) قصدا أو ضمنيا شعوريا أو لا شعوريا. أي أن الواقع ليس معطى فطري بل هو شيء مبني[18].وهذا تاكيد ان الواقع محايد وقرار الاخرين وتعريفهم له هو الذي يحدده.
و ان كان الواقع محايدا فانه لايوجد شئ أسمه واقع سلبي أو ايجابي.فتعاملنا مع الواقع هو السلبي أو الايجابي.وعقولنا هي التي تعطي الواقع تهمة إيجابية أو سلبية. وكل شيء يبدأ وينتهي مع عقولنا وانطباعنا التي يملي على الواقع صورته ومن الضروري أن نتقن وننقد أفكارنا بعيدا عن التنميط. وتنميط الواقع معضلة تصيب المجمعوات الدينية والسياسية والاجتماعية على حد سواء ولايمكن تفكيكها الا بعلم الاجتماع او حين تصطدم بالواقع فيحيلها انقاضا كما حصل ويحصل في كل فاصة تاريخية.
والتنميط او الادلجة مجموعة من الاعتقادات لا تسمح لانواع الاحتمالات وتسبب التحيز والوفاء للانطباعات الحدسية[19].وخلاصة القول ان الواقع محايد مستقل لايصطف مع اي طرف الا مع من يفقه سننه وياخذ بها ومن يفقه سنن الواقع قد يكتشف سننا لم يكتشفها من قبله احد حتى بغض النظر عن دينه او رايه والعكس صحيح.
الاساس الثالث:
السياسة مصالح لا دوافع ولا مواقف
والنجاح السياسي لا يعكس فشل اخلاقي
تعلمنا من تعريف السياسة ان الظاهرة السياسية تتعامل مع الظاهرة الاجتماعية. والتعامل مع الظاهرة الاجتماعية يعني تعامل مع سنن الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.وسنن الواقع لاتتوافق بالضرورة مع خيارات الفاعلين السياسيين.وفهم سنن الواقع ضمان من القلق النفسي والفكري, لان الدافع النفسي والانحياز الفكري لا شان لها بالوقع السياسي.
والدوافع لايمكن تحديدها الا نادرا بعكس المصالح التي تقود الوضع السياسي وبها يُفسر المشهد السياسي الذي تعجز عن تفسيره الدوافع النفسية والفكرية. فالسياسة مصالح والمصالح قوة والعمل السياسي ادارة صراع القوة.والدوافع قد تدفع صاحبها نحو اهدافه لكنه قد يدفع ثمنا باهظا ويجد نفسه رغم ذلك بعيدا عن اهدافه.
ففي الوقت الذي انتقل فيه نموذج الدولة في العراق بعد 2003 الى نموذج حكم فيدرالي *علماني*او يكاد لازالت عقلية العرب الدينية المركزية تعيش مع نموذج حكم ديني مركزي تجاوزه الزمن قبل 1920 من جهة, في حين ان العقل العربي القومي يعيش مع نموذج حكم علماني مركزي انتهى في 2003.
فانظر اين تتجه البوصلة الدولية واين تعيش العقلية العربية الدينية منها والقومية.ومن هنا فان الدوافع النفسية والفكرية التاريخية التي تتمسك بها العقلية العربية في واد والمصالح السياسية الواقعية في واد اخر [5][6].
والنجاح السياسي لايعكس فشل اخلاقي بل قد يجمعهما والفشل السياسي لا يعكس نجاح اخلاقي بل قد يجمعها ايضا. وربما يكون تناغم السعودية وتركيا مثلا مع النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سبب من اسباب نجاة ونجاح الطرفين سياسيا واخلاقيا من فوضى اصابت المنظومة القومية العربية اذ انعزلت عن مسار النظام الدولي فانقرضت.
وان إصرار أي حركة او دولة على الجمود وعدم الاستجابة للتحديات هو بداية التفكك والشيخوخة والانتحار والفشل السياسي والاخلاقي بعكس السير مع السنة الكونية والاجتماعية التي يقود للتجدد وبقاء فاعلية أي منظومة او دولة وهذا من سنن التدافع البشري* ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفدست الارض*.
ولا يصح الحديث هنا عن عمالة المتناغم مع النظام الدولي ووطنية المنعزل عنه لان نظريات الواقع السياسي تفرق بين الوقائع الموضوعية والانطباعات النفسية او الفكرية كما تفرق بين الممكن غير المرغوب والمرغوب غير الممكن.
والواقع السياسي لا يتغاظى عن الاخلاق لكنه يميز بشكل حاسم بين المرغوب والممكن.وقد يتوافق الواقع مع الاخلاق ان تم احترام سننه بعكس من ذهب مع الاخلاق وترك المصالح فذهبت المصالح والاخلاق ومن هنا قال ثيوسيديز “المصالح اضمن السندات[9] الفصل السادس القسم الثالث ثيوسيديدس وراس المال).
الاساس الرابع:
لا اكراه في الدين
لا اكراه في السياسة
و لا علم إلا في فضاء تسوده الحرّية
الدين علاقة بين الإنسان وربه، يأتيه طواعية، دون إكراه.ولا اكراه في الدين خبر في معنى النهي والنهي هنا عام محكم بغير قيد او شرط بمعنى *لا تجبروا* وهو ماذهب اليه جمهور المفسرين[12].
ومن مبادئ «فقه الشّريعة» (كما يُقرِّر علم «أُصول الفقه») أنّ «الحَرج مرفوعٌ شَرْعا» («ما يُريد اللّـهُ ليَجعل عليكم من حَرج ؛ ولكنْ يُريد ليُطهِّرَكم» [المائدة: 6] ؛ «هو ﭐجْتباكم، وما جعل عليكم في الدِّين من حَرج.» [الحجّ: 78]) وأنّ «الضرورات تُبيح المحظورات» («فمنِ ﭐضْطُرّ غير باغٍ ولا عَادٍ، فلا إثْمَ عليه!» [البقرة: 173] ؛ «فمن ﭐضْطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ، فإنّ اللّـهَ غفورٌ رحيمٌ!» [النّحل: 115]) وأنّ «الحُدود (العُقوبات) تُدرَأ بالشُّبُهات» («ادفعوا الحدود ما وَجدتم لها مَدْفَعًا.» [ابن ماجه: حدود، 5] ؛ «ادْرَأُوا الحُدود عن المسلمين ما استطعتم، فإنْ كان له مَخرج فخَلُّوا سبيله، فإنّ الإمام لأن يُخطئ في العفو خيرٌ له من أن يُخطئ في العقوبة!» [التِّرمذي: حدود، 2])، وأنّ «الرِّفْق مطلوبٌ في كل شيء» («إنّ اللّـهَ يُحبُّ الرِّفْق في الأَمر كُلِّه.» [البُخاري: 6024] ؛ «[…] إنّ اللّـهَ رفيقٌ يُحبّ الرِّفق ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العُنف.» [مُسلم: 2593] ؛ [ابن ماجه: أدب، 9] ؛ «إنّ الرِّفْق لا يكون في شيء إلّا زَانَهُ، ولا يُنزَع من شيء إلّا شانَهُ.» [مُسلم: بِرّ، 78] [أبو داود: جهاد، 1]). وبالتالي، فهَيْهات أنْ يَستقيم ما يَبْتغيه “المُبْطلون” من جعل «الإسلام/الدِّين» قرينًا لآفات “الإكراه” و”العُنف” و”التَّرْهيب” كما يَعِجّ بها واقعُ “التّديُّن” لدى المُسلمين فيُراد، من ثَمّ، إلصاقُها ظُلما وعُدوانا بـدين اللّـه [13].
واذا كان هذا هو امر الدين فان امر السياسة يجري في هذا المجرى. فقد حذر الكواكبي في “طبائع الاستبداد” في “مبحث السعي في رفع الاستبداد”من كون الأمة “قد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكة من المستبد الأول. فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضا شيئا؛ إنما تستبدل مرضا جديدا بمرض مزمن. وربما تنال الحريّة عفوا، فكذلك لا تستفيد منها شيئا.
ولهذا قرر الحكماء أن الحريّة التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئا. لأن الثورة غالبا ما تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولا” [14]. يضيف الكواكبي: “إن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. فالاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا” [14].
وإن تقدم الأمم والشعوب رهين بعدم الاكراه في الدين والدولة. اذ تعدّ الحرية اساس في التألق العلمي من جهة ومن جهة اخرى في نموذج الحكم المؤدي للتحوّل التاريخي، ذلك أن العلم والحرية ” قدر كل المجتمعات وتوقها الأبدي وخلاصها من الخوف و الجهل و الغموض[10 مقال].
ولعل التأمل في مرآة التاريخ يؤكد هذا الطرح في المثال القرآني الذي ساهم في انتقال البشرية من الجهالة إلى المدنية بنموذج الحكم في المدينة المنوره وفي المثال الأوروبي الذي أطلق على تلك المرحلة الفاصلة بالأنوار من خلال إعمال العقل في علوم جديدة اختصت بدراسة الانسان بعد حرب الثلاثين سنة التي انتجت نموذج حكم جديد[11- مقال].
الاساس الخامس:
لا احد يحتكر الواحد الاحد الذي لايحابي احدا
(لا أحد يحتكر الحق والصواب)
(الحق المطلق لا يملكه أحد)
يروي شرح اصول اعتقاد اهل السنة والجماعة للامام اللالكائي ان *خارجيان طافا بالبيت فقال احدهما لصاحبه لايدخل الجنة من هذا الخلق غيري وغيرك. فقال له صاحبه: جنة عرضها السماوات والارض بنيت لي ولك؟! فقالذّ: نعم: فقال: هي لك.وترك رايه*[15].
هذه النظرة الإقصائية التي امتاز بها خوارج الامس ودواعش اليوم امتازت بها ايضا الأورثوذكسية الكاثوليكية التي قامت على تسنين عقيدة واحدة لا يسمح لأحد كائنا من كان بالاتصال بالله تعالى خارج تعاليم أساقفتها.
وهذه النظرة تأتي بلا شك نتيجة حتمية لتربية طويلة على اعتبار قول وحيد ووسمه بالطابع الشمولي القاطع بحقيقته ويقينيته بلا اعتبار لأية أقوال أو مذاهب أخرى في المسألة المطروحة للبحث إلا باعتبارها ضالة عن الطريق السوي أو مبتدعة في حال التلطف مع أصحابها.
ولو أننا أشعنا في مرافئ ثقافتنا على اختلاف أنواعها مبدأ نسبية الحقيقة في الأقوال والأعمال والتخريجات والتفسيرات لما كانت هذه حال قطاع كبير ممن يقتاتون على ثقافتنا ويدعون الأحقية بتمثيلها .
هذه النظرة الاقصائية ادت ولازات تؤدي للعنف والقتل باسم الله فترى القتيل يقول الله اكبر وترى القاتل يقوله الله اكبر وهو يقتل.وهذا العنف والتطرف ينتج غالباً من اعتقاد هذا الفريق او ذاك بأنه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم وردهم لحياض الحقيقة المطلقة[16 مقال].
ويرى إبراهيم البليهي أنَّ (نسبية الحقيقة هي من الأمور البدهية ، فيقول *من البدهي أنه لا يوجد إنسان يمتلك كل الحقائق امتلاكاً كاملاً، وإنما يتمسك كل فرد بما يظنه كذلك فينتقي من النصوص والبراهين والمواقف والأحداث ما يُقنع به ذاته ويستمر على انتقائيته ، حتى تضطره المواقف المغايرة الضاغطة في أن يعيد فحص أفكاره، فإذا وضع كل طرف أفكاره تحت مجاهر التحليل اقترب الجميع من لب الحقيقة تحت أضواء المكاشفة الاضطرارية المتبادلة[ 17 مقال] .
والتعدديةُ في الآراءِ والأفكار ظاهرةٌ إيجابيةٌ دعا لها القران في اكثر من ١٧٢٣ مرة . فهي تنمِّي الفِكَر، وتقوِّي الرأي ،وتُظهر الإبداع. ومن لوازمها عدم امتلاك (الحقيقة المطلقة)؛ لأن دعوى امتلاكِ هذه الحقائق يمنع من التفكير الحُر،و يُناقض حريةَ الفِكر والمناقشة.وقد قص علينا القران قصة صاحبين يقول احدهما للاخر*قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت*( الكهف اية 37) فهنا صاحبان يتحاوران احدهما مؤمن والاخر كافر وقد بين المؤمن لصاحبه للكافر وجهة نظره مستنكرا كفره بطرح علمي دون ان يدعوه الى دينه.
وخلاصة القول ان كل البشرية تحت حكم الواحد الاحد، وليس صحيحا ان احد الاطراف يحتكر الحق لصالحه لانه لايمكنك ان تقول ان ارادتي وارادة الله واحدة حتى لوكنت تقيا فان كان ذلك صحيحا مع الفرد فهو صحيح مع الجماعة والمجتمع “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ “.
ولو كان الله مع طرف من اطرف الصراع دون الاخر لانتصر ذلك الطرف دوما من ادم عليه السلام الى عالم اليوم. ولكن الدهر جولات وصولات بين هذا الطرف وذلك فمنهم منتصر ومنهم خاسر بحسب اخذ هذا الطرف بالسنن وترك الاخر لها والله لايحابي احدا “ومن يعمل سواء يجز به”( النساء 122).
الاساس السادس:
لكل فضاء قانونه ولابد من دستور وبعكسه فوضى
في كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) للفيلسوف الأمريكي (ويليم كيلي رايت)، حاول الأخير تلخيص وتبسيط أفكار (هوبز) حول السياسة وعلاقتها بالأخلاق. يقول في ص 77 من الكتاب: ان القانون الطبيعي هو فكرة أو قاعدة عامة، يكتشف الإنسان عن طريق عقله أن من مصلحته طاعتها،ومن ثم فهو مُلزم بأن يفعل ذلك[20].
اي ان المصلحة*السياسة* والأخلاق هما شيء واحد في هذا المذهب الطبيعي الأخلاقي.وبكلمات اخرى ان النجاح السياسي يحقق نجاح اخلاقي والعكس صحيح.والاخلاق هنا تبع للمصلحة وليس العكس.لان الدوافع الاخلاقية او الفكرية او الدينية *التنميط او الادلجة * قد تاخذ صاحبها بعيدا عن المصلحة فيحدث الخلل.فالسياسة لها قانونها الذي يكتشفه العقل وللدين قانونه الذي جاء به الوحي .
والمعضلة تكمن في امرين اثنين.اولهما في فهم الدين بعيدا عن العقل المكلف بفهم النص والواقع والمزج بين هذا الفهم *الخيالي*وبين تنميط الواقع بعيدا عن المصلحة سيؤدي الى عنف. كمن يمزج بين الدعوة والدولة او بين السيف والدولة من جماعات الاسلام السياسي اليوم.
واذا اضفنا ان الدين فيه اجماع ونصوصه خالدة بعكس السياسة التي لا اجماع فيها ووقائعها متغيرة بسبب اختلاف مصالح الاطراف. فالدين والاخلاق تتضمن قيما ومباديء عامة محددة لاستقامة السلوك الانساني تصلح للبشر كافة دون اعتبار للزمان او المكان بعكس السياسة. فكيف سيكون الامر لو اجتمع الدين والسياسة دون دستور ينظم العلاقة بين الدين والدولة والحاكم والمحكوم؟
حينها يضيق واسع الدين ينحشر مع غير جنسه فيتشوه و يختطف وتضطرب السياسة وتفسد الاخلاق فيحترب الناس او تكون فوضى وهذا مايجري في الشرق الاوسط .ولذلك لابد من تنظيم العلاقة بين الدين والدولة من خلال شعب يختار حاكمه ودستور يضمن حقوق ويحترم هويات واديان الناس.
3–التحليل السياسي
تعريف التحليل السياسي
جسر نظري للوصول الى يقين عملي من خلال تجربة عملية
تشير كلمة تحليل الى كلمة تحقيق اشتقاقا من اصل يوناني أو الى تحلل كائن الى عناصره الاولية.
ومعنى تحقيق تنطبق على التحليل لانه يحاول اكتشاف العلاقات المتبادلة بين عناصر المشهد اي مشهد بيولوجي او اجتماعي من أجل فهم المشهد بطريقة منظمة تنظيما جيدا[38].
واما التحليل السياسي فهو احد فروع علم السياسة وهو ضروري لطالب السياسة والرجل السياسي ولمن يريد ان يعرف ماذا يدور.وهو أحد الطرق لتطوير نهج استراتيجي يربط بين علوم السياسة وعالمها المعقد. وهو تصنيف للجهات الفاعلة الرئيسية في المجتمع وتحديد كيف تؤثر في التقدم نحو أهدافها، وطريقتها في اتخاذ قرارتها ووضع استراتيجيات للتفاعل لتحقيق أهدافها[26].
واما عصام زيدان فيقول ان التحليل السياسي هو* الفهم الدقيق لمسار الاحداث وادراك دوافعها والاجابة عن سؤال ماذا حدث ولماذ حدث من خلال سبر اغوار الحدث تاريخيا وراهنا وادراك طبيعة الاطراف ذات الصلة في الحدث [21] .
والتحليل السياسي عند عبد المعطي زكي هو الطريقة التي نحكم بها على الظواهر والأحداث السياسية محلياً وإقليمياً وعالمياً،ولذلك فهو يحتاج إلى فهم الواقع السياسي للبلد وعلاقة هذا الواقع السياسي بالسياسة الدولية [22].
وخلاصة القول في تعريف التحليل السياسي انه تحقيق في اسباب الظاهرة السياسية وتفاعل اطراف الصراع ونتائجه المحتملة بطريقة موضوعية صحيحة وقراءة استراتيجية.طريقة صحيحة تجيب عن اسئلة حقيقية وتحاول الوصول لدرجة من اليقين في عالم السياسة غير اليقيني يخدم باجوبته طالب علوم السياسة وبمقترحاته صانع القرار السياسي.وان تصل الى نتيجة خاطئة بطريقة تحليل صحيحة خير من ان تصل الى نتيجة صحيحة بطريقة تحليل خاطئة.