الاقتصاد الأزرق في الخبرة العربية … واقع جيد ومستقبل واعد |
بسنت جمال مجاهد
يُعرف الاقتصاد بألوانه السبع؛ حيث يوجد الاقتصاد الأسود والأبيض والأحمر والرمادي والبني والأخضر وكذلك الاقتصاد الأزرق، وفي السنوات الأخيرة، تعالت الأصوات التي تطالب بالاستعاضة عن الاقتصاد “البني” الذي يعتمد على الوقود الأحفوري والذي يُعد أحد أسباب التغير المناخي الرئيسية في العالم، كما يتسبب في زيادة تلوث المياه والهواء وتهديد الحياة البحرية والبرية بكافة أطوارها وهو بدوره ما يشكل تهديدًا للحياة الأنسانية على كوكب الأرض، وذلك بالاقتصاد الأخضر الذي يقلل بصورة ملحوظة من المخاطر البيئية ومن الندرة الأيكولوجية للموارد، ولكن ظهر مؤخرًا لون جديد من الاقتصاد أكثر حفاظًا على البيئة وهو “الاقتصاد الأزرق”.
* ما هو الاقتصاد الأزرق؟
يُعرَف مصطلح الاقتصاد الأزرق على أنه الإدارة الجيدة للموارد المائية وحماية البحار والمحيطات للحفاظ عليها من أجل الأجيال الحالية والقادمة، بما يدعم أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة “SDGs”، ولا سيما الهدف 14 الذي يحمل عنوان “الحياة تحت الماء”.
ويعود الفضل في إطلاق هذا المفهوم إلى الاقتصادي البلجيكي “غونتر باولي” في أعقاب المبادرة العالمية التي أطلقتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” في عام 2012 من خلال أعمال مؤتمر البيئة العالمي في مدينة ريودي جانييرو البرازيلية، كما أطلقت “الفاو” منذ عام 2013 مبادرة أسمتها مبادرة “النمو الأزرق” من أجل دعم التحول إلى الاقتصاد الأزرق، ومساعدة الدول والحكومات في وضع وتنفيذ سياسات تعزز مفهومه.
ويشمل “الاقتصاد الأزرق” توليد الكهرباء من الطاقة المائية، وأنشطة التعدين في البحار والمحيطات، والسياحة البحرية، وأنشطة صيد الأسماك والكائنات البحرية، واستخراج المواد الخام من البحار، وغير ذلك من أشكال النشاط الاقتصادي المرتبط أساسًا بالمياه.
يهدف الاقتصاد الأزرق بصورة أساسية إلى الحد من المخاطر البيئية وندرة الموارد والحد من السلوكيات التي تؤدي إلى تغير المناخ، وكذلك إلى المحافظة على سلامة المسطحات المائية من التهديدات المتنامية كالتلوث والصيد الجائر وغير القانوني، استنادًا إلى فرضية أن النظم البيئية السليمة للبحار والمحيطات هي الأكثر إنتاجية بحكم انها تغطي اكثر من ثلثي مساحة الكوكب، ولقد أكد صندوق الحياة البرية العالمي “World Wildlife Fund” أنه لو كانت المحيطات بلدًا فسوف يكون إقتصاده هو السابع في العالم، حيث قدر الصندوق قيمة كل الأصول الرئيسية الموجودة في البحار والمحيطات بأكثر من 24 تريليون دولار، كما أن هناك أكثر من 3 مليارات من الأشخاص حول العالم يعتمدون على التنوع البيولوجي في المحيطات والبحار في العالم من أجل معيشتهم، كما أن 80% من التجارة العالمية يتم نقلها عبر البحار، وكذلك توفر السياحة الساحلية والبحرية ما يربو على 6.5 مليون وظيفة، فضلًا عن توفير صناعات الاقتصاد الأزرق سبل لكسب العيش لما يزيد عن 820 مليون شخص في جميع أنحاء العالم في ميادين متنوعة.
كما يلعب الاقتصاد الازرق دورًا حيويًا في الاقتصاد العالمي؛ إذ قدرت دراسة للبنك الدولي حجم مساهمة الاقتصاد الأزرق بنحو 3.6 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي، كما أكدت إنه يولد 83 مليار دولار للاقتصاد العالمي سنويا، وهذا الرقم قابل للزيادة سنويا.
* تحديات تواجه الاقتصاد الأزرق:
وعلى الرغم من المزايا المتعددة والآفاق الواعدة للاقتصاد الأزرق، فإن مسألة تطبيقه عمليًا تواجهها مجموعة من التحديات والمعوقات، وأول هذه التحديات تزايد الضغوط البشرية على الأنظمة والموائل البحرية، بسبب الصيد الجائر وردم الشواطئ وأجزاء من الحيد المرجاني، وغير ذلك من النشاطات والممارسات السلبية، حيث يسهم ذلك في التقليل من إنتاجية هذه النظم وفي التأثير على الفوائد والمساهمات الاقتصادية والتنموية التي يمكن أن تقدمها، كما أن نقص الكوادر البشرية المؤهلة لتطبيق آليات الاقتصاد الأزرق في قطاعاته المختلفة تعتبر من أهم التحديات أيضًا.
*تجارب عربية ناجحة:
- 1. المغرب:
تعتبر المغرب من الدول التي لديها إمكانيات هائلة في مجال الاقتصاد الأزرق بفضل موقعها الجغرافي؛ إذ تصل سواحلها البحرية إلى 3500 كلم، مما يؤهلها لجعل الاقتصاد الأزرق رافعة أساسية لتحقيق التنمية، ولهذا تُعد التجربة المغربية من التجارب الناجحة في الاقتصاد الأزرق، حيث ركزت على مجال تطوير قطاع صناعة الأسماك وتعزيز دوره في الاقتصاد بشكل أكبر، عن طريق وضع رؤية تنموية لهذه الصناعة بحلول سنة 2030، حيث تطمح الحكومة من خلال تبنيها مفهوم “الاقتصاد الأزرق” إلى رفع انتاجها من الأسماك إلى مليون طن سنويًا بحلول عام 2030، في الوقت الذي تتوقع فيه منظمة الأغذية والزراعة “فاو” ارتفاع إنتاج البلاد بنحو 18.2 بالمئة بحلول 2030 ليصل إلى 1.7 مليون طن من الأسماك سنويًا، وهذا دون شك سيدعم الاقتصاد المغربي بشكل كبير.
وفي مجال السياحة، تم إطلاق مجموعة من المبادرات الرائدة والتي تهدف الى جعل السياحة ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، كان أبرزها “المخطط الأزرق”، والذي يرتكز على مفهوم المحطات الساحلية المندمجة الهادفة إلى إعادة التوازن للسياحة الشاطئية بهدف إنشاء عرض شاطئي مغربي تنافسي على الصعيد الدولي.
وكذلك اطلقت المغرب العديد من المبادرات بمناسبة مؤتمر “كوب 22″، كمبادرة الحزام الأزرق للصيد المستدام بإفريقيا، والمبادرة المتعلقة بالماء لإفريقيا “Water For Africa”، وهي مشاريع تسعى إلى وضع أنظمة بيئية مائية لتطوير اقتصاد أزرق مستدام بشراكة مع جميع الجهات المعنية، كما احتضنت مراكش المؤتمر التاسع حول المياه الدولية لصندوق البيئة العالمي يوم 5 نوفمبر 2018، وتأتي أهمية هذا المؤتمر من تشكيله فرصة لتبادل الخبرات المتعلقة بإدارة المشاريع في مجال المياه والمحيطات، ومناقشة الأولويات الناشئة في هذا المجال وتحسين الأداء العام لتدبير مشروعات صندوق البيئة العالمية.
- 2. الإمارات:
تعتبر البيئة البحرية العصب الرئيسي لاقتصاد الإمارات، حيث يسهم الاقتصاد الأزرق في إنتاج الدولة المحلي بنسبة 68%، ولهذا استضافت الدورة السادسة من القمة العالمية للمحيطات التي تعقد للمرة الأولى بالشرق الأوسط والتي تستمر لمدة ثلاثة أيام بدءًا من يوم 5 مارس 2019، إيمانًا منها بأهمية الاقتصاد الأزرق، حيث تناقش القمة أهم التوصيات العالمية والإجراءات الفعالة التي يجب اتخاذها للمساعدة على حماية المحيطات التي تعتبر أكثر الموارد الطبيعية قيمة في العالم. وتتبنى الإمارات العديد من الخطط والرؤى التي تستهدف الحفاظ على البيئة والموارد المائية، لعل أبرزها:
“خطة أبوظبي البحرية 2030″، و”شبكة زايد للمحميات البحرية”، و”الأجندة الوطنية لـرؤية الإمارات 2021” التي تستهدف المحافظة على الموارد المائية، وتعزيز الاعتماد على الطاقة الخضراء.
- 3. الكويت:
نجحت الكويت في دخول عالم “الاقتصاد الأزرق” من خلال الهيئة العامة لشؤون الزراعة والثروة السمكية التي تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسماك في الدولة في إطار استراتيجية طموحة من خلال تطوير وتوسيع الاستزراع السمكي وإثراء المخزون الطبيعي للأسماك في المياه الإقليمية، ويتوقع أن يسد الاستزراع السمكي حوالي 50 % من العجز في الأسماك الطازجة بحلول عام 2025.
- 4. تونس:
تمتاز تونس بشريط ساحلي يمتد مسافة 1300 كلم على طول الجمهورية التونسية، فضلًا عن موقع استراتيجي يمكنها لتكون ميناءًا بحريًا افريقيًا، ولهذا احتضنت مدينة بنزرت يومي 20 و 21 أكتوبر 2018 فعاليات النسخة الاولى من منتدى الاقتصاد الازرق الذي ينظمه تحت اشراف رئاسة الجمهورية المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع ولاية بنزرت وبلديتها و الاتحاد من اجل المتوسط والاتحاد الاوروبي وسفارة فرنسا بتونس وعدد من مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، كما ستستضيف تونس الدورة الثانية من منتدى الاقتصاد الأزرق في إفريقيا خلال شهر يونيو المقبل، وذلك بحضور 150 مندوبًا دولياً من مستثمرين ورجال أعمال وواضعي السياسات وخبراء المحيطات لمناقشة الفرص التي يوفرها الاقتصاد الأزرق في إفريقيا، وسيناقش المنتدى الشراكات بين القطاعين العام والخاص، طاقة المحيطات، السلامة، الحوكمة، الأمن، التلوث، إدارة النفايات، مصايد الأسماك، تربية الأحياء المائية، التجارة، الموانئ، التكنولوجيا، تعليم الشباب، التمويل، المحيطات واستقلالية المرأة في القطاع البحري.
- 5. سلطنة عُمان:
تُعد سلطنة عُمان “جزيرة سلام واستقرار”، هذا هو التعبير الذي استخدمه الأستاذ الدكتور”غونتر باولي” مؤلف كتاب “الاقتصاد الأزرق” لوصف السلطنة، لأنها تمتلك فرصًا كبيرة للاستثمار في عالم الاقتصاد الأزرق، وأكد أن حكومة السلطنة دؤوبة في استخدام الموارد المالية بما يحقق الاستقرار المالي الذي يعكس توجه السلطنة الصحيح في هذا الإطار، وأوضح أن السلطنة بإمكانها الدخول في قطاع التعدين البحري الذي يعتبر قطاعًا مهمًا لما تزخر به السلطنة من سواحل ممتدة وما تمتلكه من ثروات طبيعية يمكن استغلالها اقتصاديًا في مختلف القطاعات الصناعية والتجارية وحتى الطبية بالإضافة إلى قطاع السياحة.
الخليج و الإقتصاد الأزرق |
وفي مارس 2016، اختارت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، سلطنة عُمان مع ست دول عربية أخرى لها تجارب رائدة في التنمية السمكية، لتكون ضمن ما يعرف بالاقتصاد الأزرق المرتكز على الأنشطة البحرية في المسطحات المائية، حيث أدى قطاع الثروة السمكية في السلطنة دورًا مهمًا في تحقيق الأمن الغذائي؛ باعتباره من القطاعات الاقتصادية والإنتاجية ذات الأهمية.
* الاقتصاد الأزرق كبديل للدول النفطية:
تتعرض أسواق النفط لحالات من التذبذب حيث تتأرجح اسعاره صعودًا وهبوطًا مما يؤثر بشكل ملحوظ على الدول المصدرة والمستوردة له؛ فالاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل يشكل نقطة ضعف في اقتصاديات وتصنيفات تلك الدول، ومن أبزر الأمثلة على ذلك التذبذب؛ ارتفاع اسعار النفط في الآونة الأخيرة بعد اتخاذ سلسلة من الاجراءات تتمثل أهمها في اتفاق الدول الأعضاء في الأوبك على تخفيض حجم الانتاج، والعقوبات الأمريكية على إيران وفنزويلا، فضلًا عن إلغاء الاعفاءات الأمريكية المعطاة لثمان دول من مستوردي النفط الإيراني، وأخيرًا انخفاض الصادرات الروسية بعد اكتشاف تلوث الشحنات المتدفقة عبر خط أنابيب “دروجبا” الممتدة إلى أوروبا، وقد جاء هذا الارتفاع بعدما شهد عام 2018 أدنى مستويات لأسعار النفط بسبب نمو أمداداته بوتيرة أسرع من الطلب عليه.
ونستخلص مما سبق، أهمية الاتجاه لبديل متجدد للنفط، وهذا ما يجعل الاقتصاد الأزرق مجالًا واعًدا للاستثمار، حيث يعتبر من أهم البدائل المتاحة للدول المصدرة والمستوردة للنفط، كما انه يعود بدخل مادي مجزٍ، وكذلك يعمل الاهتمام بقطاع الثروة السمكية على توفير فرص استثمارية واسعة، ولهذا يجب أن تتوجه العديد من الدول المنتجة للنفط للعمل على إيجاد قطاعات إنتاجية أخرى تساهم في زيادة الدخل الوطني.
*مستقبل واعد في ضوء تبني “الاقتصاد الأزرق”:
في نهاية نوفمبر الماضي، استضافت العاصمة الكينية “نيروبي” مؤتمر “استدامة الاقتصاد الأزرق”، الذي حضره ما يقرب من 18000 مندوب من 184 دولة، وأشارت تقديرات المؤتمر إلى أن “الاقتصاد الأزرق” سينمو ضعف معدلات نمو الاقتصاد التقليدي حتى عام 2030، وربما يزيد المعدل إذا تنامت اتجاهات اللجوء إلى البحار والمحيطات في توليد الطاقة وتحلية المياه.
وختامًا،، يبدو واضحًا أن “الاقتصاد الأزرق” بدأ يأخذ مكانه ضمن الاقتصاد العالمي، انطلاقًا من أهميته في المساهمة في معدلات النمو وتحسين مستويات المعيشة والحفاظ على البيئة بشكل مستدام، وباعتبار أن المحيطات والبحار والموارد البحرية من أكثر الموارد الطبيعية أهمية وقيمة، ولهذا يتعين على جميع الدول تبني هذا المفهوم، حيث يشكل الاقتصاد المستدام للمحيطات فرصة حقيقية أمام بلدان العالم لحماية التنوع البيولوجي فيها، والمحافظة على أمنها الغذائي والمناخي، وتنوع مصادر الدخل لديها.