أ.د. حمدي عبدالرحمن
تعلمنا ونحن على مقاعد الدراسة المثل الإفريقي القديم "عندما تتصارع الأفيال، تعاني الأعشاب تحت أقدامها". لقد كان هذا المثَل يجسِّد وبحق سياسات الحرب الباردة في إفريقيا منذ الاستقلال وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن معالم الصورة الأساسية لا تزال كما هي مع تغيُّر بعض أشخاصها. فقد صوّر الاتحاد السوفييتي نفسه -كما تفعل الصين اليوم- كحليف طبيعي للبلدان الإفريقية الجديدة. ليس لروسيا - كما هو الحال بالنسبة للصين - تاريخ استعماري في القارة. ثمة عداء مشترك للإمبريالية والاستعمار. وفي الواقع، فقد تبنَّى العديد من الآباء المؤسسين في إفريقيا بعد الاستقلال دون تردُّد النهج الاشتراكي في التنمية؛ من خلال هذه الأسس الأيديولوجية المشتركة، كان من الطبيعي أن تحتفظ موسكو بروابط أخوية متينة مع الحكومات الأكثر راديكالية في غانا وغينيا ومالي، وفيما بعد مع الدول الماركسية اللينينية في أنغولا وموزمبيق وإثيوبيا.
لم تكن إفريقيا على قمة أولويات طرفي الحرب الباردة، ولكنها كانت مسرحًا لسياسات الاحتواء والحرب بالوكالة. فكان كل طرف على استعداد للتدخل عندما تسنح الفرص. على سبيل المثال عندما انسحبت الولايات المتحدة وبريطانيا من مشروع بناء السد العالي في أسوان؛ حصلت مصر على شحنة أسلحة من تشيكوسلوفاكيا. كانت تلك فرصة أمام موسكو لكسب الأصدقاء في إفريقيا؛ حيث استحوذت في عام 1956م على برنامج بناء السد العالي وتنفيذه. وبالمثل، أقام الاتحاد السوفييتي أيضًا علاقات وثيقة مع غينيا في ظل حكم الرئيس سيكوتوري الذي تحدَّى رغبات فرنسا الديجولية، واختار طريق الاستقلال التام في عام 1958م.
في مرحلة التكالب الدولي الجديد على إفريقيا لا تزال الدول الإفريقية هي الضحية مع صعود نجم قوى جديدة على المسرح العالمي، وأبرزها الصين والهند وروسيا. بَيْدَ أنَّ القدوم الصيني على المسرح العالمي هو الأخطر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وللدول الغربية عمومًا، وهو ما يعيد صياغة مشهد الصراع العالمي ليدَشِّنَ حربًا باردة جديدة.
كانت الصين منذ عقدٍ مضى تتبنَّى ما يمكن وصفه بدبلوماسية "الاستادات الرياضية" في مواجهة دبلوماسية "الزوارق الحربية" التي تتبنَّاها واشنطن في إفريقيا. يعني ذلك أنه في الوقت الذي أعلنت فيه أمريكا عن عضلاتها، وأنشأت القيادة العسكرية الإفريقية "أفريكوم"، وأقامت القواعد العسكرية في الدول الإفريقية كما هو الحال في جيبوتي والنيجر؛ كانت الصين تبني الطرق والجسور والمباني الحكومية للأفارقة، وهو ما دفَع البعض لوصف هذه الدبلوماسية بالهجوم الصيني الناعم على إفريقيا.
أولاً: طبقًا لتقرير معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام الصادر عام 2018م؛ فإن كلاً من الولايات المتحدة والصين يستحوذان على نصف الإنفاق العسكري العالمي تقريبًا. والملاحظ هو عودة سباق التسلح بشكل ملحوظ على الصعيد العالمي؛ حيث بلغ الإنفاق العالمي على الدفاع 1.82 تريليون دولار في عام 2018م، أي بزيادة مقدارها 2.6٪ عن العام السابق، وهو أعلى معدل منذ عام 1988م. كما وصل معدل الإنفاق العسكري الأمريكي 649 مليار دولار في عام 2018م. كما ارتفع معدل إنفاق الصين العسكري بنسبة 5 ٪ لتصل إلى 250 مليار دولار في عام 2018م، وهو ما يشكِّل 14٪ من نفقات الدفاع العالمي في العام الماضي.
نحن إذن أمام صراع جديد على الهيمنة العالمية لا تزال تتشكّل معالمه بشكل أكثر وضوحًا. بَيْدَ أنَّ إفريقيا هي التي سوف تعاني من هذا الصراع الصيني الأمريكي.
لقد تجاوزت الصين الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري لإفريقيا في عام 2009م. كما بلغت الصادرات الصينية إلى إفريقيا حوالي 103 مليارات دولار في عام 2015م، بينما بلغت الصادرات الأمريكية إلى إفريقيا 27 مليار دولار فقط في نفس العام.
وعليه فقد أضحت كثير من الدول الإفريقية تعتمد على الصين في الحصول على أغلب إيراداتها. على سبيل المثال يحصل جنوب السودان على 95% من عائداته بالعملة الصعبة من صادراته النفطية إلى الصين، كما أن 60% من صادرات أنجولا تأتي من النفط والمعادن المصدرة إلى بكين. وفي الوقت نفسه، تحصل الصين على 45% من صادرات زيمبابوي من الماس والمعادن الأخرى.
ثانيًا: بلغت قيمة الاتفاقيات الموقَّعة في بكين خلال منتدى "الحزام والطريق للتعاون الدولي"، يوم 27 أبريل 2019م، 64 مليار دولار؛ حيث تجمع 37 من قادة العالم حول الرئيس الصيني شي جين بينغ . وكان من بين هؤلاء أربعة رؤساء أفارقة هم: إسماعيل عمر غيلة (جيبوتي)، وعبد الفتاح السيسي (مصر)، وأهورو كينياتا (كينيا)، وفيليب جاسينتو نيوسي (موزمبيق)، ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد.
ومن الواضح أن الصين سوف تُكثِّف من وجودها في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا؛ حيث تم الإعلان عن توقيع اتفاقيتين مع كينيا، بقيمة إجمالية قدرها 590 مليون يورو من خلال قروض ميسرة وشراكات بين القطاعين العام والخاص. وطبقًا لهذ الاتفاق تقوم شركة الاتصالات العملاقة هاواوي ببناء مركز بيانات في "مدينة التكنولوجيا" الجديدة في كونزا التي تبعد 70كم من نيروبي، كما سيتم بناء طريق سريع يخدم مطار جومو كينياتا الدولي في نيروبي.
ثالثًا: من الواضح أن جيبوتي الواقعة في موقع استراتيجي بالغ الأهمية عند مدخل البحر الحمر تشكل العمود الفقري في خطة الصين للطريق والحزام، وربما تجسّد في المستقبل القريب طبيعة الصراع الدولي في مرحلة الحرب الباردة الجديدة. ومن الواضح أن "مبادرة الحزام والطريق" لا تقتصر فقط على تعزيز البنية التحتية للطرق البرية والبحرية التي تربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا -أي: التركيز على الصبغة التجارية، لكنها طرحت أيضًا حاجة الصين لتعزيز وجودها العسكري لحماية مصالحها المتزايدة في الخارج. كان على الصين أن تفصح عن عضلاتها وقوتها العسكرية عندما أقامت أول قاعدة عسكرية لها في الخارج على أراضي جيبوتي في عام 2017-، وهو ما أثار المخاوف الأمريكية والغربية بشأن القوة العسكرية للصين.
ومن المعروف أن الجزء البحري من الحزام والطريق يهدف إلى ربط المناطق الساحلية للصين وأوروبا عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي. وهنا نجد أهمية ميناء جيبوتي؛ التي تقع على خليج عدن والبحر الأحمر وتمثل بوابة قناة السويس التي تمر عبرها 10% من صادرات النفط العالمية.
رابعًا: عسكرة الوجود الدولي في البحر الأحمر: من الطريف أن جيبوتي كانت مرتبطة دائمًا بالقوى التقليدية الغربية. فقد قامت الولايات المتحدة ببناء قاعدتها العسكرية في معسكر ليمونيه منذ ما يقرب من عقدين. كما أن العديد من حلفاء الولايات المتحدة، مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا واليابان، لديهم أيضًا وجود عسكري في القرن الإفريقي بهدف الحفاظ على النظام العالمي الحالي بقيادة الولايات المتحدة.
بَيْدَ أنَّ التحدي الأكبر هو قيام الصين المنافس الجديد للولايات المتحدة ببناء أول قاعدة بحرية أجنبية لها في جيبوتي كما ذكرنا، على بعد 12كم فقط من معسكر ليمونيه. يعني ذلك أن الصين تعزز من مكانتها الاقتصادية والأمنية كفاعل رئيسي في منطقة الشرق الأوسط وشرق إفريقيا. لم تعد الصين تعتمد فقط على إرسال سفن الإمداد لدعم مصالحها الخارجية، وإنما تعمد على إنشاء قواعد في الخارج.
باتت الصين لا تشارك فقط في بعثات حفظ السلام في إفريقيا، ولكنها سعت أيضًا لإظهار القوة في محاولة لاحتواء النفوذ الغربي، وبما يخدم مصالحها الخاصة. لقد شهدت القاعدة الصينية في جيبوتي بعض الأنشطة غير المرتبطة بحفظ السلام، والتي تُظهر اهتمام الصين بتحسين قدراتها القتالية، مثال ذلك: زيارات الموانئ في جميع أنحاء القارة، والتدريب المشترك في مجالات الحرب البحرية والبرية.
خامسًا: في مواجهة هذا الخطر الصيني ظهرت استراتيجية ترامب الجديدة للتعامل مع إفريقيا، والتي ارتكزت على احتواء النفوذ الصيني والروسي المتزايد في إفريقيا، وهو ما يعيد تفكير المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأمريكية زمن الحرب الباردة.
كما تحاول إدارة ترامب توظيف حلفاءها التقليدين في سياسة الاحتواء تلك للصين. فقد وقَّعت اليابان والهند - اللاعبان الرئيسيان في استراتيجية الهند والمحيط الهادئ للولايات المتحدة - اتفاقية دفاع في طوكيو في أكتوبر 2018م، اتفقتا فيها على تبادل قواعدهما العسكرية، مما يسمح للهند باستخدام قاعدة اليابان في جيبوتي.
ولا شك أن هذا الاتفاق يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة الوجود العسكري الهندي في جيبوتي، الأمر الذي يزيد من تعقيد ديناميات القوة والصراع الدولي في خليج عدن. ومن المعروف أن الهند هي الأخرى قد قامت بتطوير علاقات تجارية واستثمارية واسعة النطاق مع دول الشرق الأوسط الكبرى بما في ذلك سلطنة عمان وإيران. وعلى النقيض من ذلك؛ فإن الدولة الوحيدة الصديقة للصين ذات القوة العسكرية القادرة على الانتشار في خليج عدن بطريقة مستدامة سوف تكون روسيا. وعليه فإننا على أعتاب إعادة تشكيل المنطقة من الناحية الجيوستراتيجية بشكل يوحي بعودة أجواء الحرب الباردة.
لاشك أن إعلان الحرب الباردة الجديدة ضد الصين في أروقة السياسة الأمريكية والغربية أمر لا يخفى على أحد، ولكن العمل على كيفية إدارة هذه الحرب يتَّسم بعدم اليقين. ومع ذلك يرى بعض الكُتَّاب أن هناك فرصة للتعاون بين الصين والولايات المتحدة؛ حيث إن التنافس بين القوتين لا يمكن إلا أن يسبِّب المتاعب لكلٍّ منهما. نحن أمام فيلين كبيرين ونعرف تمامًا مَن يكون الضحية. إنها إفريقيا التي عانت في جميع مراحل التكالب الدولي على مواردها الطبيعية والبشرية.