نينا بافسنيك
ترجمة: فردوس محمد - باحثة اقتصادية
يرى كثيرٌ من الاقتصاديين أنه على الرغم من رفع تحرير التجارة الدولية مستويات المعيشة، إلا أنها تولّد أيضًا فائزين وخاسرين محليين. لذا، يعارض المتضررون من العولمة سياسة التحرير، ويطالبون حكوماتهم بتبني سياسات حمائية، الأمر الذي يُعرّض الفوائد الاقتصادية الناتجة عن التجارة بالمجتمع ككل للخطر.
وتظهر تلك الإشكالية في كلٍّ من الدول ذات الدخل المرتفع (الولايات المتحدة، وبريطانيا)، والاقتصادات الناشئة (الصين، والهند، والبرازيل)، باعتبارها المستفيدة الأكبر من تحرير التجارة، لكن تداعياتها أقل ظهورًا بداخلها لأنها تشهد معدلات نمو أسرع من الدول ذات الدخل المرتفع.
وفي هذا الصدد، حاولت "نينا بافسنيك" (أستاذة الاقتصاد بكلية دارتموث) في تحليل بعنوان "الفائزون والخاسرون من التجارة الدولية"، نُشِر بالعدد الثاني لدورية "Survival"؛ تحديد الفائزين والخاسرين من التجارة الدولية، والتغيير الإقليمي الذي حدث نتيجةً لها.
تداعيات متعددة
يُوضّح التحليل آثار التجارة الدولية على الاقتصادات المتنوعة، حيث يشير إلى أن التكامل السريع للاقتصادات الناشئة داخل السوق العالمية يجعل خسارة الإيرادات والوظائف في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع أمرًا متوقعًا. وتذكر "بافسنيك" أنه بعد الحرب العالمية الثانية، كانت النسبة الأكبر من التجارة الدولية تتم بين دول متشابهة ذات دخل مرتفع في أنواع متشابهة من السلع (فيما عدا البترول وموارد طبيعية أخرى).
وفي هذا الإطار، وفرت التجارة الدولية إمكانية وصول الشركات إلى عدد أكبر من الأسواق، والحث على الابتكار وتخفيض تكاليف الإنتاج. ومن ثم استفاد المستهلكون من انخفاض الأسعار والوصول إلى مجموعة متنوعة من المنتجات. وعلى الرغم من خسارة بعض الشركات المحلية لهذا النوع من التبادل الدولي، إلا أن "بافسنيك" تذكر أن التبادلات الصناعية الداخلية لا تُحدث فروقًا كبيرة في الإيرادات والتوظيف داخل الدولة. وتشير في تحليلها إلى أنه مع بداية ثمانينيات القرن المنصرم، بدأت الدول النامية في تطبيق تحرير التجارة على نطاق واسع، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لتمثل الآن أكثر من 40% من التجارة الدولية.
ولهذا توقع الاقتصاديون أن مثل هذه التجارة ستسبب عواقب توزيعية في الدخول، وزيادة المخاوف بشأن تخفيض الأجور وخسارة الوظائف. ويوضح التحليل أن الصراعات المتعلقة بتوزيع التجارة ظلت موجودة في النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عارض الفلاحون الفرنسيون خلق مجتمع اقتصادي أوروبي، وتم الاكتفاء فقط بصياغة السياسة الزراعية المشتركة. كما عارضت الاتحادات العمالية الأمريكية تحرير التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك أثناء مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
وتُشير "بافسنيك" في تحليلها إلى أن التجارة الدولية تجعل الأسر في الدول النامية أفضل حالًا، حيث انخفض الفقر، خاصةً في الصين والهند. وتضيف أن البعض يزعم أن الدول النامية هي الدول الفائزة، والدول المتقدمة هي الخاسرة من حرية التجارة بين الجانبين، وأن الدخول المرتفعة التي تكتسبها الطبقة المتوسطة في بكين تأتي على أساس تكلفة الدخول المنخفضة وخسائر بالوظائف في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، من المهم تذكر -وفقًا للتحليل- أن التجارة الدولية تولّد فائزين وخاسرين (على الأقل بالقيم النسبية) داخل جميع الدول. فعلى الرغم من أن الأدلة المجمعة منذ أكثر من ربع قرن من البحث ترى أن التجارة ليست العامل الأساسي في ارتفاع عدم المساواة بالدول المتقدمة أو النامية فيما يتعلق بتأثيراتها التوزيعية؛ إلا أن التحليلات الدقيقة تشير إلى وجود تشابهات متعددة في كيفية تأثيرها، ولا سيما المنافسة من جانب الواردات، على أسواق العمل في كل مستويات التنمية.
وأشارت "بافسنيك" إلى خسارة الوظائف في قطاع التصنيع الأمريكي والبرازيلي، خاصةً من خلال المنافسة من جانب الواردات الصينية. وأوضح التحليل أنه إلى جانب تأثير التجارة الدولية على تغيير أذواق المستهلكين، وتعزيز التقدم التكنولوجي؛ فإنها أيضًا تخلق وتقضي على الوظائف في آنٍ واحد. لذا تُعد خصخصة الوظائف مكوِّنًا هامًّا لأي اقتصاد صحي ونشط.
التغيير الإقليمي
تذكر "بافسنيك" في تحليلها أن ما يُعد مدهشًا ومقلقًا في آنٍ واحد هو أن آثار التجارة الدولية على الإيرادات والتوظيف متمركزة جغرافيًّا وطويلة الأمد. حيث تعتمد على مدى تعرض المنطقة لصدمات التصدير والاستيراد. وفقًا لذلك، يُعد الأفراد في المناطق ذات التركيز الأعلى على الصناعات المُوجَّهة للتصدير أفضل حالًا من هؤلاء بالمناطق ذات التركيز الأقل على المُصدِّرين. وعلى النقيض، يُعد الأفراد في المناطق ذات التركيز الأعلى على الصناعات المحلية المُنافِسة للواردات أسوأ حالًا من هؤلاء الأفراد بالمناطق الأقل عرضة لذلك. وقد تم دعم هذا التقييم من خلال إجراء بحوث ودراسات على مجموعة من الدول؛ تشمل: البرازيل، والصين، والهند، والمكسيك، والولايات المتحدة، وفيتنام.
وأشار التحليل إلى توقع النظرية الاقتصادية تحوّل الأفراد من المناطق ذات التأثير السلبي للمناطق ذات الأداء الأفضل مع مرور الوقت، مما يترتب عليه اختفاء الفروق في الإيرادات. لكن التحليل يُشير إلى أن عملية تحرك العمالة مُكلفة، وقد تستلزم التخلي عن التأمين غير الرسمي مثل مساعدة ودعم العائلة والأفراد. كما قد يترتب على عدم مرونة أسواق العقارات والأصول الإنتاجية صعوبة شراء وبيع عناصر رفاهية وعيش الشعوب. ويرى التحليل أن حركة العمالة بالدولة، يعتمد على مستوى التنمية، والسياسات الحكومية، والمعايير الاجتماعية.
علاوةً على ذلك، قد تتضخم الآثار السلبية للمنافسة على الواردات على الإيرادات والتوظيف عبر الزمن، حيث قد تستمر عدم الحركة حتى 20 عامًا بعد تطبيق عملية الإصلاح التجاري، مثلما حدث في حالة تحرير الواردات بالبرازيل عام 1991، حيث تدهورت الإيرادات النسبية للعمالة بالمناطق المتأثرة ببطء مع مرور الوقت، ومن ثم أدى ذلك إلى إغلاق المصانع.
ويُشير التحليل إلى أنه نتيجة كون الآثار السلبية للمنافسة على الواردات طويلة الأمد ومتمركزة جغرافيًّا، فقد تحدث آثار عرضية معنوية محتملة بمحاور أخرى، مثل: التعليم، والجريمة، والصحة، وإتاحية السلع العامة المُتوفِرة محليًّا. ومن ثم قد تزيد تلك الآثار المُجمَّعة من تفاوتات الدخول عبر المناطق الجغرافية، وتؤدي إلى عدم مساواة فرص معيشة الأفراد في المجتمعات المُتأثِّرة في الأجل الطويل.
وفي الختام، تُشير "بافسنيك" في تحليلها إلى أنه في حالة رغبة الحكومات في الحفاظ على الدعم لتحرير التجارة، والذي يعد مهمًّا جدًّا في عالم سلسلة التوريد العالمية عما كان عليه بالماضي؛ فإن الحكومة تحتاج إلى مساعدة هؤلاء العاطلين عن العمل. كما تعتمد مساعدة الحكومة لهؤلاء المتضررين من العولمة على مستوى التنمية الاقتصادية للدولة على مرونة سوق عملها وهيكل تمويلاتها العامة.
ويرى التحليل أنه على الرغم من أن شبكات الأمان الاجتماعي مُكلفة؛ إلا أن السياسات الحمائية لتخفيف مخاطر التجارة العالمية تعد مُضِرة أكثر، إذ إن تلك الوظائف المفقودة لن تُعيدها عرقلةُ سلسلة التوريد العالمية، وفرض عقوبة على هؤلاء المستفيدين من التجارة، لكن قد تلغي تلك الإجراءات المكاسب التي تمت بالصناعات الآخذة في النمو.