أ.د. حمدي عبدالرحمن
تطرح ظاهرة عودة الدور السياسي للجيوش في إفريقيا خلال العقد المنصرم إشكالية تقييم مسارات التحول والانتقال الديمقراطي بعد الانقلاب. لقد كان التدخل العسكري حاسمًا في إزاحة عدد من النظم التسلطية والوقوف بجانب الإرادة الشعبية كما حدث مؤخرًا في زيمبابوي والجزائر والسودان.
فهل يمكن الحديث عن الانقلاب الديمقراطي في فضاء التحوُّل الإفريقي؟ وهل يرتبط ذلك بموجة صامويل هنتنغتون الثالثة؛ حيث أشار إلى انقلاب البرتغال عام 1974م باعتباره العامل الأساسي للتحول الديمقراطي ليس فقط في البرتغال، ولكن كبداية لموجة عالمية من عمليات إرساء قواعد النُّظُم الديمقراطية؟
لقد تحدث بعض الكُتَّاب في إفريقيا عن فكرة الانقلاب "الجيد " أو "الديمقراطي"، التي تُفسَّر على أنها تطوُّر إيجابيّ يعزِّز من عملية الانتقال الديمقراطي. ويمكن ملاحظة ذلك من ظهور جيل جديد من الانقلابات في مرحلة ما بعد الحرب الباردة يُمثِّل إلى حدّ كبير قطيعة من حيث الغاية والمآلات مع الخبرة التاريخية في الستينيات والسبعينيات. فقد أفضت كثيرٌ من هذه الانقلابات إلى انتخابات تنافسية، وليس إلى تأسيس نظام عسكري صرف كما كان متبعًا طيلة سنوات الحرب الباردة.
يُحدث" الانقلاب الجيد"، وفقًا لهذا الفهم، صدمة في بنية الأنظمة الاستبدادية قد تجعلها تتهاوى وتخلق الفرصة من أجل تأسيس نظام ديمقراطي أكثر انفتاحًا. وعلى الرغم من أن تاريخ الانقلابات العسكرية في إفريقيا مليء -لسوء الحظ- بأمثلة لقادة عسكريين انحازوا لدعم سلطتهم ومواصلة الحكم الاستبدادي بعد الانقلاب، فإن عددًا آخر منهم اختاروا طريق الاصلاح والتحول نحو الديمقراطية. ربما كان من المستحيل القيام بهذه الإصلاحات بدون تدخل الجيش.
لقد بدأت مالي انتقالها الديمقراطي في عام 1991م، عندما تجمع الآلاف من المتظاهرين في الشوارع للمطالبة بتنحي الرئيس موسى تراوري بعد أكثر من عقدين من الزمن في ظل حكم عسكري مستبِد، كان الأمل معقودًا بناصية الجيش الوطني لتخليص البلاد والعباد من نظام مفترس فقد صلاحيته.
وبالفعل قاد العقيد أمادو توماني توري انقلابًا عسكريًّا، واعتقل تراوري، فكان في نظر الجميع المنقذ المنتظر. ومع تصاعد الضغط الشعبي من أجل الديمقراطية، قام توري بتشكيل حكومة انتقالية مؤلفة من قادة عسكريين ومدنيين، وتم سحب الجيش من السياسة، مما سمح لمالي بالتحول إلى الحكم الديمقراطي في غضون بضع سنوات فقط.
وحديثا في نوفمبر 2017م، تخلى الرئيس روبرت موغابي كرهًا عن قبضته الحديدية على السلطة
والتي استمرت لمدة 37 عامًا، وذلك بفضل انحياز الجيش للحركة الجماهيرية الغاضبة. لقد رحب كل الذين حلموا بالخلاص بحركة الجيش وتدخله في الوقت المناسب؛ حيث اعتبر هذا التدخل العسكري بمثابة "انقلاب جيد".
والتي استمرت لمدة 37 عامًا، وذلك بفضل انحياز الجيش للحركة الجماهيرية الغاضبة. لقد رحب كل الذين حلموا بالخلاص بحركة الجيش وتدخله في الوقت المناسب؛ حيث اعتبر هذا التدخل العسكري بمثابة "انقلاب جيد".
تكرر المشهد عينه في الجزائر 2019م عندما أعلن قائد الجيش انحيازه لمطالب الشعب الرافضة للعهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة.
ولم يكن انقلاب السودان الذي أطاح بالرئيس البشير في أبريل 2019م إلا أحدث مثال على فكرة الانقلاب الديمقراطي التي تسهم في خلخلة بنية الاستبداد وتساعد على إحداث تحول حقيقي.
بَيْدَ أنَّ تحليل وفهم طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في الدول الإفريقية تجعل مقولة "الانقلاب الجيد" غير مفيدة على المدى الطويل. إذا تنحَّى الجيش جانبًا وذهب إلى ثكناته وسمح بالمضي قدمًا في مسار التحول الديمقراطي، فليس هناك ما يضمن عدم تدخله مرة أخرى في المستقبل، وفي هذه الحالة يكون التدخل على حساب التطور الديمقراطي.
لقد كان انقلاب عام 1991م في مالي كما ذكرنا " انقلابًا جيدًا"، بيد أن البلاد شهدت انقلابًا آخر عام 2012م، وُصِفَ بأنه "نكسة شديدة للديمقراطية، ليس فقط في مالي، ولكن في إفريقيا قاطبة.
وفي حالة زيمبابوي تشير الأدلة الموثوقة إلى أن النخبة العسكرية قد ضحت بموغابي من أجل مصلحتها الخاصة. لقد كان هذا هو نفس الجيش الذي دعم نفس النظام غير الديمقراطي. لم يكن خافيًا أن يسلم الضباط العسكريون الذين أشرفوا على الانقلاب السلطة للسياسي المخضرم وربيب النظام إيمرسون منانغاجوا، الذي أضحى رئيس زيمبابوي المنتخب. فهل يستطيع الرجل الذي كان حليفًا مقربًا لموغابي، ويتمتع بدعم من الجيش أن يلهم شعبه ويلبي طموحاته الخاصة بالتحول الديمقراطي؟ كل ذلك يؤكد الطبيعة المعقدة للانقلابات في إفريقيا، وأن الميل لتبنّي نزعة تبسيطية قد تدفع بنا إلى الوقوع في فخّ أوهام المسرح التي تحدث عنها فرنسيس بيكون.
بغض النظر عن صعوبة معرفة الأهداف الحقيقية غير المعلنة لقادة الانقلابات؛ فإن عودة ظاهرة الانقلابات بشكلها الكلاسيكي تثير القلق على مستقبل الدولة في إفريقيا. يجب على المرء أولاً أن يفهم التطور التاريخي للجيوش الإفريقية ووظيفتها أثناء الاستعمار، والطبيعة الضعيفة للدول الإفريقية عمومًا.
خلال الحقبة الاستعمارية، كانت الجيوش أداة لتحقيق هيمنة القوى الاستعمارية؛ حيث استُخْدِمَتْ كأداة في ديناميات "السياسة الداخلية" في كل المستعمرات.
لذلك غرست التجربة الاستعمارية ثقافة عسكرية تؤمن بحق التدخل في السياسة، وهو ما يتعارض مع المعايير الديمقراطية التي تؤكد على حيادية ومهنية الجيوش. وبالنظر إلى ضعف وهشاشة الدولة الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفشلها في تحقيق التوقعات المرتبطة بالتحديث والتنمية، شعر الجيش - بسبب عقيدته المتأصلة وثقافته التي تربَّى عليها زمن الاستعمار- بضرورة التدخل باعتباره حامي حمى الديار والقَيِّم على البلاد والعباد.
وتشير كافة المؤشرات المرتبطة بمسارات الدول الإفريقية إلى أنه من المرجح أن تظل الانقلابات العسكرية سمة من سمات المشهد السياسي لإفريقيا، حتى لو كانت تحدث بوتيرة منخفضة.
إن التمييز بين الانقلاب الجيد والانقلاب الرديء في الواقع الإفريقي قد يوقعنا في فخّ التنظير بعيدًا عن التعامل مع أصل المسألة المرتبطة بجدلية العلاقات المدنية العسكرية. إذ تُفصح عملية تحليل مسارات التحول في مرحلة ما بعد الانقلاب إلى أنه لا يمكن حدوث تحول ديمقراطي حقيقي، إلا إذا تم إخضاع المؤسسات العسكرية والأمنية لنوع من السيطرة المدنية وفقًا لمبدأ تقسيم العمل.
وهنا تبرز عدة إشكالات عامة على النحو التالي:
1 إشكالية فك الارتباط:
أي كيفية إقناع المؤسسات العسكرية والأمنية والميليشيات شبه العسكرية بقبول الانسحاب من المعترك السياسي والعودة إلى الثكنات. هذه المشكلة ليست مستعصية كما قد تبدو لأول وهلة؛ نظرًا لأن القوات المسلحة ليست متجانسة تمامًا؛ فعلى سبيل المثال، كانت هناك دائرة عسكرية قوية في نيجيريا عام 1979م تدعم الانتقال إلى الحكم المدني والتحول الديمقراطي.
وفي ملاوي عام 1994م، لعبت القوات المسلحة دورًا مهمًّا في عرقلة الجهود التي بذلتها القوات شبه العسكرية لنظام باندا السابق لزعزعة استقرار عملية إرساء الديمقراطية.
ومع ذلك، في تلك الحالات التي تتأرجح فيها ولاءات القيادة العسكرية التي تلقي بثقلها خلف نظام يعارض التغيير السياسي، أو يجهض مثل هذا التغيير بسبب عدم ثقته في النُّخْبَة المدنية، يصبح النضال من أجل الديمقراطية بالتأكيد أكثر صعوبة وطويل الأمد.
2- إشكالية "السيطرة المدنية" على الجيش:
أي كيفية منع التدخل العسكري أو التدخل ضد المؤسسات الديمقراطية القائمة. المبدأ السائد في النظم الديمقراطية هو التوكيد على قيم "الاحتراف" والمهنية بما في ذلك مبدأ التبعية العسكرية للسلطة المدنية. ومع ذلك، قد ترغب المؤسسات العسكرية في تأكيد "استقلالها" المهني ومقاومة المساءلة السياسية؛ وهو ما يجعلها مترددة في التخلي عن مكتسباتها السياسية. وعليه تصبح مسألة إعادة التأهيل المهني للقوات المسلحة وتبني إصلاحات هيكلية في بنيتها وثقافتها العامة من أبرز الأولويات لأي حكومة ديمقراطية جديدة.
3 - إشكالية الشفافية:
أي كيفية ضمان مساءلة الأجهزة العسكرية والأمنية والسياسيين المنتخبين المسؤولين عنها؛ بحيث لا يمكن لأي منهما إخفاء انتهاكات السلطة تحت عباءة "الأمن القومي". صحيح أن السرية في المسائل العسكرية والأمنية مطلوبة حتى في الديمقراطيات المتقدمة، ولكن السرية المفرطة ليست ضرورية للأمن القومي بل إنها قد تلحق الضرر به. وعليه فإن زيادة الوعي بقيم الاحتراف العسكري قد تدعم النقاش العام حول قضايا الميزانية والأمن. ويمكن في هذا السياق التوكيد على أهمية إنشاء لجان برلمانية أو مؤسسات فكرية مستقلة وهيئات بحثية تهتم بالقضايا العسكرية والأمنية.
4- إشكالية القيادة والسيطرة:
أي كيفية استعادة الانضباط في النظم والبيروقراطيات العسكرية والأمنية المنقسمة؛ بحيث تكون قادرة على الحفاظ على استقرار النظام ومواجهة أي تهديدات خارجية.
لقد كان الإرث الرئيسي للحروب الأهلية والصراعات في إفريقيا هو إضعاف التأهيل المهني للقوات المسلحة وفي بعض الحالات تفككها. وعليه كانت عملية إعادة هيكلة القوات المسلحة في غانا وأوغندة خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات من بين الأمثلة البارزة.
كما مثَّلت عمليات دمج قوات حروب التحرير السابقة كما هو الحال في زيمبابوي وناميبيا وجنوب إفريقيا، وبعد الحرب الأهلية كما في أنغولا أو تشاد أو موزامبيق أو جنوب السودان تعبيرًا عن خبرات متباينة ونتائج مختلطة. ولا شك أن إعادة الهيكلة العسكرية ليست سهلة. عادة ما يتطلب الأمر مراجعة شاملة لدور ومهمة القوات المسلحة والعقيدة والهياكل المؤسسية والمعدات ومستويات القوة، وهلم جرا.
5 – إشكالية الأمن الإقليمي:
أي كيفية إنشاء إطار إقليمي لحفظ السلم، ودعم الجهود الرامية إلى إخضاع المؤسسات العسكرية والأمنية الوطنية للسيطرة الديمقراطية، وفي الوقت نفسه منع انتشار الصراعات عبر الحدود. إذ يوجد تاريخ طويل من تورط القوى الأجنبية ودول الجوار في النزاعات المسلحة داخل الدول الإفريقية، والتي بدأت مع أزمة الكونغو في أوائل الستينيات.
غالبًا ما ساهمت مثل هذه النزاعات في ترسيخ الأنظمة الاستبدادية، مثل الحكومات العسكرية في السودان، والحكومة العسكرية السابقة في إثيوبيا بعد 1974م؛ حيث تميل إلى رفض الحلول السلمية من خلال الحصول على الدعم العسكري الخارجي. (وهذا ينطبق كذلك على الجماعات المتمردة، التي تلقت الدعم الخارجي من قوى أجنبية ومن دول الجوار). وعليه يصبح من الأفضل مبدئيًّا تسوية النزاعات الإفريقية على المستوى الإقليمي من خلال مؤسسات الاتحاد الإفريقي والهيئات دون الإقليمية مثل الإيكواس والسادك والإيجاد.
تلك هي بعض القضايا الكبرى التي تحتاج إلى النظر والتدبر لإقامة علاقة متوازنة بين الجيش والسلطة وفقًا لنمط العلاقات المدنية العسكرية الذي يعلي من قيم الاحتراف والسيطرة المدنية.
لقد حدثت كثير من الانقلابات التي اعتبرت جيدة عندما كان يتعين على الجيش استخدام المزيد من الإكراه لفرض تسوية سياسية عن طريق التفاوض، وبالتالي الوقوع في فخّ ما أطلق عليه بعض الكتاب المنطقة الرمادية بين التسوية المتفاوض عليها والانقلاب التقليدي.
يتم الإعلان أن الرئيس قد استقال أو تنحى أو أنه خُلِعَ بأمر الشعب، ويسمح له في بعض الأحيان قضاء بقية حياته في رغد من العيش. ولعل المثال الأبرز هنا هو معرفة كيف يعيش موغابي اليوم داخل زيمبابوي، بدعم من الحكومة بمعاش تقاعدي، وإقامة في قصر منيف يقوم على خدمته نحو 23 موظفًا، كما أنه يحمل جواز سفر دبلوماسيًّا، مما يمنحه الحصانة من الملاحقة القضائية خارج بلاده.
وعليه فإن الوقوف عند حد التنظير والتمييز بين الانقلاب الجيد والانقلاب الرديء يدفع بنا إلى الوقوع في فخ الوهم السائد بدلاً من الولوج إلى جوهر مشكلة العلاقات المدنية العسكرية في الواقع الإفريقية.