Kristian Coates Ulrichsen
ترجمة: باسم راشد
اندمجت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بشكل متزايد في الاقتصاد العالمي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعد أن فتحت أبوابها تدريجياً للاستثمار الأجنبي المباشر، ثم انضمت بعد ذلك إلى منظمة التجارة العالمية. ومنذ ذلك الوقت، وفي ظل تطورات الأوضاع الاقتصادية، واستضافة بعض دول الخليج للمعارض التجارية العالمية، احتلت دول مجلس التعاون الخليجي مكانة مميزة في النظام العالمي.
في هذا الإطار، يناقش "كريستيان أولريتشزن" Kristian Coates Ulrichsen، زميل في معهد بيكر الأمريكي، في كتابه الصادر في نهاية أكتوبر 2015 تحت عنوان: "دول الخليج في الاقتصاد السياسي الدولي"، تغير موقع ومكانة دول مجلس التعاون الخليجي في النظام الاقتصادي العالمي، ومدى تأثير العولمة على اقتصاداتها.
مظاهر الصعود الاقتصادي لدول الخليج العربية
يشير الكاتب إلى أنه على خلفية التحولات العميقة في المعطيات الجيوسياسية والجيواقتصادية في العالم، فقد أصبحت دول الخليج مراكز أكثر قوة ونفوذاً إقليمياً ودولياً. وبصرف النظر عن دور المملكة العربية السعودية في تحقيق استقرار أسواق النفط، ظهرت دول مجلس التعاون الخليجي في بداية الألفية الثالثة كشركاء أقوياء يعيدون تشكيل وموازنة العالم من حولهم.
وقد سرَّع من وتيرة هذه العملية اندلاع "الثورات" العربية في منطقة الشرق الأوسط في عام 2011، والتي دفعت دول الخليج إلى اتخاذ بعض التدابير لمحاولة احتواء آثارها، وقد بلغت تلك التدابير ذروتها مع التحالف العربي الذي تقوده السعودية لمواجهة التمرد "الحوثي" في اليمن، والذي بدأ بعملية عاصفة الحزم في مارس 2015.
وهناك العديد من المظاهر التي توضح الصعود الاقتصادي الخليجي في النظام الاقتصادي العالمي، ولعل أبرزها فوز قطر في ديسمبر 2010 بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2022، حيث يعد ذلك بمثابة تجلياً للصعود السريع والمتزايد لدول الخليج كقوى إقليمية ذات امتداد عالمي، خاصةً أن هذا الحدث قد وقع في أعقاب الأزمة المالية العالمية.
وبدا ملحوظاً أن دول الخليج لم تتأثر بالأزمة المالية العالمية، بل إن استثماراتها ظلت بنفس الدرجة من القوة. فقد أقبل الخليجيون على شراء الماركات العالمية الشهيرة، واستثمر رجال الأعمال الخليجيين في معظم المؤسسات ذات الشهرة العالمية العالمية مثل "بورش، فيراري، هارودز، بنك باركليز، بورصة لندن، وغيرها"، بالإضافة إلى رعاية دولتي الإمارات وقطر للقمصان الخاصة ببعض فرق الكرة العالمية مثل "برشلونة، وريال مدريد، وباريس سان جيرمان، وغيرها".
والأكثر أهمية من ذلك، هو حجم ووتيرة التنمية الاقتصادية التي دفعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى الصدارة؛ إذ استطاعت هذه الدول الانتقال بسرعة كبيرة من المجتمعات القبلية الصحراوية إلى المجتمعات الصناعية الأكثر تقدماً من خلال استغلال موارد النفط وتأسيس بنية تحتية سليمة وقادرة على استيعاب ذلك التطور. ويُعزى ذلك لطبيعة الإدارة الواعية والطامحة في تحقيق ذلك التقدم في دول الخليج العربي.
ويشير الكاتب في هذا الإطار إلى أن عوائد النفط قد حوَّلت طبيعة الاقتصاد السياسي لدول مجلس التعاون الخليجي، وغيِّرت كذلك من طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، كما حددت مسار تطورها فيما بعد، في حين أنها مكَّنت الحكام من تطوير أساليب الحكم والإدارة من مجرد مدن صغيرة تحكمها تحالفات بين القبائل والعائلات إلى دول مركزية متحضرة.
الظاهرة الخليجية الفريدة
يتناول الكتاب دول مجلس التعاون الخليجي كتحالف أو مجموعة واحدة أكثر من تعامله معها كدول منفردة، لكنه يراعي في السياق ذاته الاختلافات البينية بين دول مجلس التعاون الخليجي من حيث الحجم والمصالح وطبيعة النفوذ السياسي والاقتصادي.
ويشير الكتاب إلى أن أنماط الانفتاح على العالم والسعي للعالمية من شأنه أن يعيد تشكيل موقع ومكانة الدول المنفردة في النظام الدولي، ويضخ كذلك ديناميكيات جديدة في العلاقات الإقليمية والدولية. وينطبق ذلك بطيعة الحال على دول الخليج؛ فالتنوع الكبير في المصالح الجيوسياسية والجيواقتصادية لدول مجلس التعاون يمثل منعطفاً هاماً ومحورياً في عملية إعادة تموضع دول الخليج في إطار النظام العالمي المتغير.
وبدلاً من أن تفرض دول الخليج من خلال تفردها الاقتصادي تهديداً للهياكل الاقتصادية العالمية القائمة، فإنها تعمل بشكل أكثر عملية من أجل تعظيم نفوذها وتأثيرها في السياسة العالمية الحالية، والتي تتوزع فيها أدوار القوى الدولية بين عدد أكبر من المشاركين النشطين على نطاق أوسع من ذي قبل، ومن ثم تريد أن تحتل مكانة خاصة في إطار هذا التوزيع.
وفي هذا الصدد، أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي أكثر وضوحاً واستباقية في وضع أجندة السياسات الدولية من الموضوعات والقضايا؛ بدايةً من الإدارة المالية وموضوعات الطاقة، إلى الطيران العالمي والأمن الغذائي. ويعد ذلك مؤشراً هاماً على طبيعة تطور المؤسسات العالمية، والتي تتحول بمرور الوقت إلى تعدد مراكز التأثير فيها، وتأتي دول الخليج في صدارة هذه المراكز الأكثر تأثيراً في السياسات العالمية.
دور دول الخليج في الاقتصاد السياسي العالمي
أشار الكتاب إلى عدة عناصر استطاعت من خلالها دول مجلس التعاون الخليجي أن تقدم إضافة للنظام الاقتصادي العالمي، وتتمثل أبرزها فيما يلي:ـ
1- تطور منظور القيادات الرسمية في دول الخليج العربي، ابتداءً من الشيوخ وحتى صغار المسؤولين، فيما يتعلق بإدارة العولمة وكيفية التعامل معها، بما يحقق أكبر استفادة ممكنة لدول الخليج، وفي نفس الوقت لا يؤثر بالسلب على الهُوية العربية والقبلية لتلك المجتمعات، وهو ما يختلف مع المبادئ والمعايير الغربية للعولمة.
2- الدوافع القوية والأهداف السياسية والاقتصادية وراء صعود دول الخليج على الساحة الدولية، خاصةً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى الروابط الإقليمية المختلفة التي اتبعتها دول مجلس التعاون الخليجي بين بعضها البعض من ناحية، وبينها وبين التكتلات المختلفة من ناحية أخرى، وهو ما ساهم في التأثير على السياسة الإقليمية والعالمية.
3- طبيعة التغير الذي حدث في النظام الدولي بعد الأزمة المالية العالمية، والذي سرَّع من إمكانية الصعود الكبير واللافت لدول الخليج في النظام العالمي، وإعادة تشكيل وضعها ومكانتها داخله، من خلال تحديد عناصر نفوذها وتأثيرها الإقليمي والدولي، سواء من عوائد النفط أو غيرها من العوامل الاقتصادية والسياسية التي ساهمت في تعزيز ذلك الدور وتعظيمه.
في هذا الصدد، رسم الكاتب صورة عامة لنماذج وأنماط انخراط دول الخليج العربي مع النظم الإقليمية والدولية، مشيراً إلى أنه على الرغم من التحولات الشاملة في القوة الجيوسياسية والجيواقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي، فإن ثمة عوامل أكثر أهمية تكمن وراء انخراطهم في النظام الاقتصادي العالمي بهذه الصورة.
وتتمثل تلك العوامل مجتمعة في رغبة صُناع القرار في دول الخليج للمشاركة بشكل استباقي - من خلال إنشاء تحالفات مع مجموعات أخرى من الاقتصادات الناشئة - في تغيير توزيع القوى الإقليمية والدولية، بما يحقق أكبر مصلحة لهم ولشركائهم وحلفائهم في الإقليم والعالم.
خُلاصة ما توصل إليه الكتاب هو أن مساهمة الاقتصاد الخليجي في النظام الاقتصادي العالمي الحالي قد دفعت بقدر كبير إلى إعادة النظر في موقع ومكانة دول الخليج في الاقتصاد السياسي الدولي، حيث باتت دول مجلس التعاون تساهم بقوة كمجموعة متكاملة وموحدة أو من خلال كل دولة منفردة في تشكيل أجندة السياسات العالمية، الأمر الذي يؤكد مدى تغير أو بالأحرى تطور نفوذ وتأثير هذه الدول على النظام العالمي.
وعلى الرغم من أن العديد من العوامل قد ساهمت في تعظيم ذلك التأثير، إلا أن النموذج الذي تطرحه دول الخليج من خلال نظم حكمها وإدارتها للمشكلات التي تظهر في كافة دول العالم يعد مختلفاً أو مميزاً طبقاً لطبيعة تلك المجتمعات وقدرتها على الموائمة بين الحفاظ على هُويتها الثقافية وبين قدرتها على التأثر بالعولمة الغربية.
من ناحية أخرى، انخرطت دول الخليج العربي في قطاعات مميزة يعتمد عليها العالم بقوة، مثل الطيران الدولي، والذي أصبحت تحتل فيه الإمارات وقطر مرتبة متقدمة على مستوى العالم، من حيث جودة الخدمات التي تقدمها ومعدلات الأمان.
ويشير الكتاب أيضاً إلى أن غالبية الاقتصاد الخليجي يعتمد على العمالة الوافدة من الخارج، إلا أن تعامل دول مجلس التعاون مع هذا الحجم الكبير من العمالة الوافدة وتشريع القوانين التي تحمي حقوقهم، يساهم في تنمية القطاع الاقتصادي بقوة.
* عرض مُوجز لكتاب: "دول الخليج في الاقتصاد السياسي الدولي"، والصادر في لندن، أكتوبر 2015.