محمد الدبار
المعهد المصري للدراسات
يثير تناول السياسة الخارجية لدولة من الدول، العديد من الأبعاد والقضايا النظرية والتحليلية، في مقدمتها، مفهوم السياسة الخارجية، ومدي ارتباط هذه السياسة بالتحولات التي يشهدها النظام الدولي، من حيث أثر هذه التحولات علي طبيعة ونطاق واهتمامات هذه السياسة، وكذلك مدي تأثير متغير القيادة السياسية في صنع وتوجيه السياسة الخارجية، من حيث مدي صحة مقولة أن هذه السياسة بالأساس شخصية، نظراً لسيطرة عدد محدود من الأشخاص علي صنعها وتوجيهها.
وتنصرف السياسة الخارجية إلى سياسة وحدة دولية واحدة، أى البرامج التى تتبعها تلك الوحدة إزاء العالم الخارجي، وهو ما يميز السياسة الخارجية من العلاقات الدولية، فهى تلك السياسة التى يصوغها الممثلون الرسميون للوحدة الدولية، أى الأشخاص المخولون رسميًا اتخاذ القرارات الملزمة، كما تنصرف إلى برامج العمل الخارجي المعلنة، أي أنها برامج مقصودة لذاتها وقابلة للملاحظة.
فهي مقصودة لذاتها لتحقيق أهداف معينة، وبالتالي لا يجب الخلط بينها وبين النتائج المترتبة على السياسة، والتى لم تكن مقصودة أصلاً. فالسياسة الخارجية هي مجمل الأقوال والأفعال الصادرة عن صانعي تلك السياسة، فلا يكفى أن “يعلن” صانع السياسة الخارجية عن تمسكه بسياسة معينة، ولكن يجب لاعتبار هذا الإعلان جزءًا من السياسة الخارجية أن يكون مقرونًا بأفعال موازية، وأن يكون نمط تعبئة الموارد فى الدولة متجهًا نحو تحقيقه.
كما تتسم هذه السياسة بالاختيار، أي اختارها من يدعون صنعها من بين سياسات بديلة متاحة، وأنها ليست مفروضة تمامًا من خارج النظام السياسي، وهي أيضاً ليست مجرد رد فعل آلي للبيئة الخارجية، ولكنها عملية واعية تنطوي على محاولة التأثير على تلك البيئة أو التأقلم معها، وتحقيق مجموعة من الأهداف، وبالتالي لا يدخل فيها إلا ما ارتبط بشكل مباشر بعملية تحقيق تلك الأهداف، فالتصرفات “الشخصية” لصانعي السياسة الخارجية فى المجال الدولي لا تعد جزءًا من السياسة الخارجية لدولتهم[1].
والسياسة الخارجية وإن كانت تصاغ داخلياً (أي داخل الوحدة الدولية) فإنها تسعى إلى تحقيق أهداف إزاء وحدات خارجية، وهو ما يميزها عن السياسة الداخلية التى ترمي إلى تحقيق أهداف داخل المجتمع الذي صيغت فى إطاره، وإن كان هذا التمييز لا ينفي الترابط والتشابه بين السياستين الخارجية والداخلية فى كثير من الجوانب.
أولاً: أبعاد السياسة الخارجية:
وفي هذا الإطار يمكن القول أن السياسة الخارجية هي برنامج ذو بعدين رئيسيين: البعد العام (ويشمل التوجهات والأدوار والأهداف والاستراتيجيات) والبعد المحدد (وينصرف إلى مجموعة القرارات والسلوكيات والمعاملات التى
تتضمنها السياسة الخارجية)، وفي إطار هذين البعدين، فإن السياسة الخارجية تتضمن مجموعة من:
ـ القرارات: وهي اختيارات محددة لصانعي السياسة الخارجية بين بدائل متاحة لحل مشكلة محددة، ويعتبر ريتشارد سنايدر أشهر من درس قرارات السياسة الخارجية وقدم نموذجًا لتحليلها.
ـ السلوكيات السياسية: هي التصرفات اللفظية أو العملية المحددة زمانًا ومكانًا، والتى يقوم بها الأشخاص الحكوميون المخولون رسميًا بالتصرف باسم الوحدة الدولية، والموجهة إلى العالم الخارجي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، ويتم رصد سلوك السياسة الخارجية من خلال عدة مؤشرات منها: الأحداث الدولية والسلوك التصويتي الدولي والسلوك الدبلوماسي الدولي.
ـ المعاملات: وتشمل الأنشطة الاقتصادية والاتصالية ذات الطابع الدوري المنتظم والتى لا يمكن دراستها إلا على أساس تجميعي نظرًا لتكرارها. كالتجارة الخارجية والاتصالات الشعبية[2].
ثانياً: سمات السياسة الخارجية:
وفي إطار هذه الاعتبارات فإن فهم السياسة الخارجية فهمًا متكاملاً، يتطلب فهم تلك الجوانب المتعددة، من ناحية، ومعرفة ما تتميز به هذه السياسة من سمات، من بينها:
1ـ أنها تصاغ وتنفذ فى سياق قضايا محددة، أي في إطار مجموعة من العلاقات ذات الخصائص المشتركة التى تميزها عن غيرها من العلاقات بوجود قيم وهياكل وعمليات وفاعلين متميزين، كما تتسم بتفاوت وجهات النظر حول كيفية التعامل معها، أي أنه إذا اتسمت العلاقات باتفاق عام حول كيفية التعامل معها لما أصبحت “قضايا”، وإنما تحولت إلى “قواعد للسلوك”.
وتشمل قضايا السياسة الخارجية العديد من القضايا الأمنية، العسكرية، والسياسية ـ الدبلوماسية، والاقتصادية ـ التنموية، والثقافية ـ العلمية، وغيرها، وتتفاوت سياسة الوحدة الدولية تجاه وحدة دولية أخرى بتفاوت قضايا التعامل بينهما.
2ـ أنها تنفذ من خلال مجموعة من الأدوات والمهارات المناسبة لتحقيق أهدافها، وتنبع قيمة الأدوات من أهميتها لتحقيق الأهداف، ومن كونها عاملاً مؤثرًا فى مسار السياسة الخارجية، ومحددًا لسمات تلك السياسة ومعالمها، فتوافر أداة معينة يُغري باستعمالها لتحقيق الأهداف، كما أن كثافة اللجوء إلى أداة معينة فى السياسة الخارجية يطبعها بطابع معين مشتق من تلك الأداة، ومن ذلك أن تتسم بطابع “عسكري” نتيجة تكرار توظيف الأدوات العسكرية.
وتنصرف أدوات السياسة الخارجية إلى الموارد الاقتصادية والمهارات البشرية المستعملة فى صياغة تلك السياسة وتنفيذها، ومن صورها: الأدوات الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، والسياسية الداخلية، والاستخبارية، والرمزية، والعلمية والتقنية، والطبيعية، وتميل الدول المتقدمة اقتصاديًا إلى توظيف تلك الأدوات بمختلف أشكالها، بينما تميل الدول النامية إلى التركيز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والرمزية[3].
3ـ إن الدول ليست الوحدات الوحيدة التى يمكن أن تكون لها سياسة خارجية، فمع اتساع عدد الدول وظهور الدول القزمية، وظهور وحدات دولية مؤثرة فى العلاقات الدولية، اتسع نطاق وحدات السياسة الخارجية ليشمل الدول والتنظيمات الدولية، وحركات التحرر الوطنى وغيرها.
4ـ أن وصف السياسة الخارجية لأى وحدة دولية يتطلب رصد الخصائص الأساسية لكل من أبعاد مفهوم السياسة الخارجية لتلك الوحدة، بهدف التوصل إلى نمط سياسة تلك الوحدة مقارنة بالوحدات الأخرى. فالسياسة الخارجية “سياسة نمطية”، أى أنها تتسم بخصائص متميزة تحدث بطريقة تكرارية يمكن رصدها واكتشاف مساراتها العامة والتنبؤ بها، ومن ثم، فإن الهدف هو التوصل إلى تلك الأنماط كخطوة نحو تفسيرها علميًا.
5ـ أنه يتم التمييز بين نمطين فى ميدان السياسة الخارجية: الأول نمط السياسة لوحدة دولية معينة عبر فترة تاريخية طويلة نسبيًا، والثاني نمط السياسة الخارجية لمجموعات متماثلة من الوحدات الدولية خلال فترة تاريخية.
ويتطلب رصد نمط السياسة الخارجية توصيف عدة أبعاد رئيسية لعل أهمها تحديد مضمون الأبعاد الأساسية للسياسة الخارجية (التوجهات والأدوار وغيرها)، ومدى التوافق والتفاوت بين تلك الأبعاد، ومدى التوافق والتفاوت بين سياسة الوحدة الدولية تجاه الوحدات الدولية المتباينة مع رصد قضايا السياسة الخارجية وأدواتها، وعناصر الاستمرار والتغير فى تلك السياسة[4].
ثالثاً: مفهوم التغير الدولي:
في إطار هذه الخصائص وتلك السمات، يأتي تناول مفهوم التغير الدولي، وطبيعته، وكيفية تأثيره علي السياسة الخارجية للدول التي يضمها هيكل النظام الدولي، فقد عرف النظام العالمي منذ منتصف الثمانينيات، ومع تبني الاتحاد السوفيتي شعارات تحديث الهيكل السياسي والاقتصادي، العديد من التحولات، التي أدت إلي تغير عميق شمل بنية النظام وهياكله وتوازناته التي تميزت بنوع من الاستقرار منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي إطار تحليل هذا التغير، يتم التمييز بين عدة تيارات متباينة:
الأول: صنف هذه المرحلة تحت اسم “الوفاق الدولي الجديد” استناداً إلى توجه السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي التي سعت للاندماج في المجتمع الدولي، والانتماء لمفهوم “القيم ذات الطابع الكوني للإنسانية”، والرغبة في معالجة الصراعات الإقليمية في مناطق متفرقة من العالم بالوسائل السياسية والسلمية، والحوار حول المائدة المستديرة.
الثاني: صنَّف هذه المرحلة بأنها مرحلة انتهاء النظام العالمي ذي الثنائية القطبية، التي سادت منذ انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبداية نظام عالمي ذي قطب واحد، هو الولايات المتحدة الأميركية، ويرتكز هؤلاء على تزايد نصيب الولايات المتحدة من الوسائل العسكرية والأيديولوجية والاقتصادية على الصعيد العالمي في مواجهة عجز الاتحاد السوفيتي عن تملُّك واستحواذ الوسائل التي تمكنه من أداء واستمرار دوره كقوة عظمى، وخصوصاً مع انخفاض أداء الاقتصاد السوفيتي وحاجته الماسة إلى استثمارات غربية ومساعدات اقتصادية أوروبية وأميركية.
الثالث: ذهب إلى أن النظام العالمي الجديد سوف يكون نظاماً متعدد الأقطاب، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية ثم أوروبا الغربية واليابان، وربما الصين والهند كذلك[5].
وقد اتفقت هذه الرؤى على أن هناك عدد من المعالم الأساسية للنظام العالمي في بداية التسعينات من القرن العشرين، تقوم علي تدهور مواقع الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى اقتصادياً وعسكرياً وإيديولوجياً، بل وقبوله بالتخلي عن دوره، نظراً إلى كلفته الاقتصادية والسياسية التي لم يعد في مقدوره الوفاء بها، وانتهاء نظام الغرب ـ الشرق، الذي مثَّل البنية الأساسية للنظام العالمي الذي ساد منذ مؤتمر “يالطا” 1945 وحتى منتصف الثمانينيات.
وأن هذا النظام لا يزال في طور التكوّن، ولم تتحدَّد معالمه وقسماته الأساسية بعد، وأن مرحلة التسعينات تتميز بسيولة فائقة، وبتصدُّع البنى والهياكل القديمة للنظام السابق، وفي المقابل لم تتضح هوية البنى والتوازنات الجديدة من النظام الجديد، على الرغم من توفر العديد من الدلائل والإشارات على وسائله الجديدة، وهو ما يدفع إلي توصيف مرحلة التسعينات من تطور النظام العالمي بأنها مرحلة انتقالية، بين نمطين مختلفين من تطور العلاقات الدولية.
مرحلة تشهد انهيار الاتحاد السوفيتي المنافس والشريك للولايات المتحدة وتحول روسيا إلى دور التعاون والمساندة والانخراط في النظام الأميركي، فلم تعد روسيا قوة عظمى كما لم تعد تملك الوسائل ولا تحتمل التكلفة التي يفرضها خلاف عميق وجذري حول شكل ومضمون النظام الجديد المقبل، مع تأكيد التفوق العسكري الأميركي الحاسم على الصعيد العالمي، في مواجهة الحلفاء والمنافسين المحتملين في النظام العالمي، وهو ما يعني أن التفوق الاقتصادي وكفاءة البني الاقتصادية لن تكفي وحدها، لشغل دور قوة عظمى في النظام الجديد، وأن عمالقة الاقتصاد بحاجة إلى عملاق عسكري، وأصبح الرهان الأميركي قائماً علي تسويق القوة العسكرية بوصفها معادلاً موضوعياً للكفاءة والتفوق الاقتصاديين.
مع العمل في الوقت نفسه علي استنهاض الأمم المتحدة بوصفها عصب التنظيم الدولي الراهن ومصدر الشرعية الدولية المعاصرة. فمع بدء أزمة الخليج 1990، لجأت الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن؛ لاستصدار قرارات تمنح الشرعية الدولية لتدخلها العسكري وتوفر غطاءً دولياً ذا مصداقية وذا قيمة ردعية، يوفر لها الشرعية والتغطية، والحصول على الإجماع من جميع الأعضاء، وتظهر المقاومين بمظهر الخارجين عن القانون([6]).
وفي هذا الإطار يأتي التساؤل عن كيف يمكن أن تؤثر التغيرات في النظام الدولي علي السياسة الخارجية للدول التي يتكون منها هذا النظام؟.
رابعاً: التغير في النظام الدولي وتغير السياسة الخارجية:
إن تحديد متغيرات السياسة الخارجية، يبدأ بالتمييز بين البيئة الموضوعية Operational environment (التي تمثل المحيط الفعلي لعملية صنع السياسة الخارجية مستقلاً عن فهم صانع السياسة الخارجية لهذا المحيط ، كتوازن القوي العالمي، أو حجم المقدرات الاقتصادية العسكرية المتاح، أو شكل النظام السياسي للدولة) والبيئة النفسية Psychological environment (التي تشير إلي معارف Cognitions ـ تصورات، عقائد، إدراكات ـ صانع السياسة الخارجية للبيئة الموضوعية) فالبيئة الموضوعية لا تؤثر مباشرة فى السياسة الخارجية، ولكن تؤثر بشكل غير مباشر من خلال البيئة النفسية لصانع السياسة الخارجية، أى من خلال فهمه لمتغيرات البيئة الموضوعية، فإذا لم يدرك صانع السياسة الخارجية وجود متغير موضوعي معين، فإن ذلك المتغير لن ينتج أثرًا فى السياسة الخارجية لدولته، ويمكن تناول هذه المتغيرات علي النحو التالي:
1: المتغيرات الموضوعية:
تنقسم هذه المتغيرات إلى نوعين (داخلية، وخارجية):
(أ) المتغيرات الموضوعية الداخلية: هي تلك المتغيرات الناشئة من البيئة الموضوعية الداخلية للوحدة الدولية، أى من داخل نطاق ممارستها لسلطتها، أو تلك التى لا تنشأ نتيجة التفاعل مع وحدات دولية أخرى وتشمل هذه المتغيرات: الخصائص القومية، والمقدرات القومية، والمشكلات الاجتماعية، ومستوى التطور القومي، والتكوين الاجتماعي، والتوجهات المجتمعية، والنظام السياسي (أي طبيعة تكوين السلطة التنفيذية والموارد المتاحة لها والضوابط السياسية الواقعية عليها)[7].
(ب) المتغيرات الموضوعية الخارجية: هي تلك المتغيرات الناشئة من البيئة الخارجية للوحدة الدولية، أى الآتية من خارج نطاق ممارستها لسلطتها، أو تلك التى تنشأ نتيجة التفاعل مع وحدة دولية أخرى، وتشمل تلك المتغيرات: النسق الدولي، والمسافة الدولية، والتفاعلات الدولية، والموقف الدولي.
2ـ المتغيرات النفسية:
السياسة الخارجية فى التحليل النهائي، فرد (أو مجموعة من الأفراد)، وهو فى ذلك يتأثر بدوافعه الذاتية وخصائص شخصيته، وبتصوراته الذهنية لطبيعة المتغيرات الموضوعية، وتشمل المتغيرات النفسية للقائد السياسي صانع السياسة الخارجية، ثلاث مجموعات من المتغيرات: الدوافع الذاتية، والخصائص الشخصية، البيئة النفسية (أي معارف الإنسان عن البيئة الموضوعية، وتشمل مجموعة العقائد، والإدراكات، والقيم، والتصورات التى يطورها الإنسان لكي يتمكن من التعامل مع البيئة المنعقدة المحيطة به)[8].
ويختلف الوزن النسبي لأى من متغيرات السياسة الخارجية باختلاف المواقف الدولية التى تصنع فى إطارها هذه السياسة، وباختلاف الوحدات الدولية المراد تفسير سياستها الخارجية، وباختلاف أشكال السياسة الخارجية المراد تفسيرها، حيث تلعب المتغيرات المتعلقة بالبيئة النفسية للقائد السياسي دورًا فى تشكل السياسة الخارجية فى فترات الأزمات الدولية بدرجة تفوق تأثيرها فى المواقف الدولية العادية، ففترات الأزمات تتسم بنقص المعلومات، والغموض، وعدم اليقين الهيكلي، مما يدفع القائد السياسي إلى الاعتماد على بيئته كأداة رئيسية لاتخاذ القرار.
كذلك فإن المتغيرات النفسية تزداد أهميتها فى مواقف محددة من أهمها: درجة اهتمام القائد السياسي بالسياسة الخارجية، ومدى درامية أسلوب دخول القائد السياسي إلى السلطة، ومدى كارزمية القائد السياسي، وسلطة القائد السياسي فى ميدان السياسة الخارجية وخبرته فى الشئون الخارجية، فكلما ازدادت قيمة تلك المتغيرات، زاد احتمال تأثير الدوافع الذاتية والخصائص الشخصية فى السياسة الخارجية”[9].
كذلك تؤثر المتغيرات المتعلقة بالقائد السياسي والمتغيرات الخارجية فى السياسة الخارجية للدول النامية بدرجة تفوق تأثير المتغيرات ذاتها على السياسة الخارجية للدول المتقدمة اقتصاديًا، ذلك أن ضعف المؤسسات السياسية فى الدول النامية يوفر للقائد السياسي مجالاً أرحب للتأثير فى السياسة الخارجية للدولة، فضلاً عن أن محدودية الموارد وضعف الاقتصادات يفتح مجالات واسعة أمام تأثيرات القوى الكبرى فى سياستها الخارجية.
ويختلف تأثير متغيرات السياسة الخارجية باختلاف أشكال السياسة الخارجية المراد تفسيرها، ذلك أن تأثير المتغيرات يختلف عن تناول توجهات السياسة الخارجية الخارجية وأدوارها، وعن تأثير قرارات السياسة الخارجية وسلوكياتها[10].
وقد تعددت التيارات والاتجاهات الفكرية التي تناولت أثر هذه المتغيرات، وما يترتب عليها من تأثيرات علي هيكل النظام السياسي، والسياسة الخارجية للدول التي يقوم عليها هذا الهيكل، وفي إطار هذه التيارات برزت المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة، والتي اهتم أنصارها بحركة السياسة العالمية تجاه المصادر الاستراتيجية، وبطبيعة بناء هيكل العلاقات الدولية الناتجة عن نماذج العلاقات المعتمدة على القوة، ويرون أنه أمام تحكم سياسات الدولة الممثلة فى هذا الصراع يتحرك النظام الدولى تجاه أحد أمرين، إما بتحقيق نوع من التوازن بين الدول الكبرى، أو نوع من التوازن بين القوى المتصارعة، وذلك في إطار نظام تسعى من خلاله الدول العظمى إلى بسط نفوذها على الدول الأخرى.
وحيث أن التوازن الدولى للقوى السياسية كان قمة ما تصبو إليه الحكومات خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، فإن الواقعيين ينظرون إليه كضرورة تاريخية، وهو لا يمثل علاقة حقيقية بين القوى كمبرر للسياسات التى تتبعها القوى العظمى، فقد تم استبدال التوازن بين القوى العظمى، والذي كان يميز النظام الدولى حتى عام 1914 بالتوازن بين قطبين فقط نتيجة المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فقد مهدت الحرب العالمية الثانية الطريق لميلاد عالم يختلف اختلافًا شديدًا من حيث مبادئه وبنائه، واستعملت فكرة التوازن كمبرر سريع للحاجة إلى قوة مقابلة لقوة الاتحاد السوفيتي[11].
وتم السعي نحو التوازن فى نطاق الأسلحة الاستراتيجية، وساعدت الجهود التى بذلت فى هذا الاتجاه على تأكيد استمرارية تقسيم أوربا إلى مناطق نفوذ تكونت بعد الحرب العالمية الثانية، و بدأ يظهر هيكل النظام على أساس وجود قطبين، هيمن أحدهما علي شرق أوربا والآخر علي غربها، واستمر ذلك لأكثر من أربعة عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتي بداية التسعينات.
وعن ذلك يقول “ريمون أرون ـ Rimon Aron”: “إن قانون التوازن الأكثر انتشارًا يقوم علي أن أهداف الممثلين الأساسيين هي تفادى الوقوع تحت رحمة منافسين لهم، ولكن مع وجود قوتين عظميين تسيطران على الموقف، وبما أن هاتين القوتين المتساويتين، غير قادرتين على تكوين قوة مقابلة لأي منهما .. هنا ينشأ الائتلاف بين اللاعبين الرئيسيين. والهدف الأساسي من هذه الائتلافات هو منع الآخر من إحراز التفوق عليه”[12].
وانتهي “هوفمان ـ Hoffman” إلي أن الهيكل الذي يقوم على القطبين المتباعدين ويتميز بالقوة النووية التى تملكها القوتين العظميتين، قد تمكن إلى حد كبير من إخماد الحرب التى كادت تشتعل بين الزعماء أو القوى العظمى، دون محاولة للحد من العنف، وخاصة فى دول العالم الثالث أو حرب العصابات، أو حتى في قلب هذين المعسكرين، ثم انقسم النظام الدولى إلى نظم فرعية إقليمية. وفى إطار هذه النظم الفرعية، أصبحت نتائج الصراع تحدد عن طريق علاقات القوة، وظلت الحروب تمثل استمرارًا للسياسة ولكن بوسائل أخرى[13].
وفي الوقت نفسه قامت الدول العظمى بإقامة هيئات دولية ووضع قوانين يمكن من خلالها التحكم في ديناميكية السياسات الدولية، والاحتفاظ بالنظام الدولى وضمان استمرارية سيطرتها على الدول الأخرى.
وطبقًا لذلك فما زالت العلاقات بين القوى تقوم بدور حاسم فى السياسات الدولية، فهناك قوتان عظمتان تسيطران على الأمن الدولى، وتؤثران فى بنائه، وكان النظر إلى الأمر من هذا المنطلق، بهدف الحرص على إظهار الطبيعة المتشددة لبنية النظام الدولى، واثر التحولات والتغيرات الدولية علي السياسات الخارجية للدول المختلفة، ولهذا تم التركيز على أنماط علاقات القوة فيما بين الدول علي المسرح الدولى[14].
وانتهي “والتز” (Waltz, Kenneth) إلي أن بنية السياسة الدولية ما هي إلا تفاعل بين القوى العظمى، وأنه ليس من الممكن معرفة هيكل النظام الدولى دون تعريف مبدأ تنظيمه، فإذا كان قانون التوازن قانونًا ثابتًا وصحيحًا، فإن الدول لابد وأن تختار أن تكرس مواردها لتحقيق الازدهار للقوى الاستراتيجية، وأنه إذا لم تكن تغيرات السياسة العالمية نتاج خالص لمواجهات القوى المتعارضة، فإن النظام الدولى لابد وأن يقوم على أسس أو مستويات قانونية وأخلاقية، وعلى مؤسسات ومبادئ أيديولوجية، ففي أثناء الحرب العالمية، عمل الحلفاء على تحديد المبادئ ووضع الأسس الدستورية لنظام دولي جديد. وقد كان ميثاق الأمم المتحدة انعكاسًا واضحًا لهذا الطموح، وكما هو الحال بالنسبة للهيئات العالمية والإقليمية التى ظهرت بعد 1945 لتحكم عملية التعاون المتعددة الجوانب والتى أصبحت أمرًا أساسيًا لتحقيق أهداف الدول[15].
وفي إطار هذه الاعتبارات نظر البعض إلي التحولات التي شهدتها دول شرق أوروبا علي أنها تنبئ بانتصار القيم الغربية، وأن التغييرات التى جرت فى المعسكر السوفييتي تبطل أطروحة قيود البناء ذي القطبين، وتعطى أهمية جديدة للسمات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية للدولة القائمة بالأدوار على المسرح الدولى، كما تعطى ثقلاً خاصًا للقوى المتحررة من الطابع القومي فى سياسة الدول، وفى سلوك النظام الدولى.
وأن التغييرات التى حدثت فى المعسكر الشرقي، تعتبر ردًا على المشكلات الاقتصادية، والحركات الاجتماعية والثقافية، والاتجاهات الأيديولوجية التى نشأت خارج النظام السوفييتي، فالحدود بين الدول الحديثة، وصعوبة استخدام القوة العسكرية، والارتباط الأوثق بين القوة وتراكم المعلومات العلمية والفنية، أدى إلى تغيير المواقع التقليدية لرسم السياسة والاستراتيجيات.
إلا أنه في المقابل فإن التغيرات التى حدثت فى المجتمع الدولى، وإن كانت قد أدت إلى الإقلال من مخاطر الحروب، فإنها لم تقلل من أخطار العنف، أو من تعدد الأزمات والعداءات من كل نوع، فالمسرح الدولى ما زال مكانًا تظهر فيه كل الأزمات والصراعات وعلاقات النفوذ والعنف، فالبناء المعاصر للمجتمع الدولى يرعى علاقات القهر، والتبعية، والنبذ الاجتماعي وحركات الهجرة، والصراعات العرقية والحروب الداخلية والإقليمية، والإرهاب [16].
ومن هنا يمكن القول أن العالم قد شهد منعطفاً جديداً في تاريخ العلاقات الدولية منذ منتصف الثمانينيات، بعد تخلي الاتحاد السوفيتي عن سياسة المواجهة مع الولايات المتحدة والغرب، وتخليه عن طموح القوة العظمى، واتجاه وريثته إلى الاندماج أكثر من ذي قبل في المجتمع الدولي، ووضع أساس انتهاء صراع الشرق ـ الغرب الذي حكم العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإفساح المجال للتفاعلات الداخلية في بلدان أوروبا الشرقية لكي تأخذ مجراها، بداية من عام 1989 مع سقوط حائط برلين.
ثم كانت أزمة الخليج 1990، والتي مثلت نمطاً جديداً في الأزمات الدولية والإقليمية، ورافق توقيتها نهاية الحرب الباردة ونهاية تقسيم أوروبا ورغبة الاتحاد السوفيتي في التخلي عن سياسة المواجهة وخفض كلفة الوجود العسكري السوفيتي في الخارج وتكلفة سياسته نحو العالم الثالث[17].
والفراغ الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية وتوحيد ألمانيا كان حافزاً للإدارة الأميركية لإعادة بلورة استراتيجية جديدة وتعريف أهداف أخرى للولايات المتحدة وحلفائها على الصعيد العالمي، إذ فقدت الأهداف القديمة مصداقيتها، فلم يعد الخطر السوفيتي قائماً وانهارت “إمبراطورية الشر” كما دأبت الإدارة الأميركية على وصف الاتحاد السوفيتي، وفقد حلف الأطلسي وقواته المتمركزة في أوروبا عدواً كان المبرر لوجودها.
ثم كان من نتائج انتهاء الثنائية القطبية أيضاً تشجيع ظهور القوى الإقليمية وانتشار التجزئة، وفتح الطريق نحو النزعات القومية في وقت ازداد حجم الخلل بين الشمال والجنوب، فقد كانت الولايات المتحدة تنتهز الفرص لتأكيد زعامتها العسكرية والسياسية للعالم والتشديد على قيادتها للشؤون العالمية في ضوء المعطيات الجديدة على الصعيد العالمي، بحيث كانت أزمة الخليج مواتية لتركيز عالم أحادي القطبية.
ومن هنا أصبح الهامش المتاح للحرية أمام مختلف دول العالم في سياستها الخارجية محدوداً، وهو ما انعكس بطبيعة الحال علي درجة الاستقلال النسبي التي كانت تتمتع بها في صنع واختيار وتوجيه هذه السياسات[18].