منذ صدور الكتاب الذي ألفه الأستاذان لويس كانتوري وستيف شبيجيل في عام 1970 بعنوان "السياسات الدولية للإقليم"[1]، وتلاه بثلاثة أعوام الكتاب الذي حرره الأستاذان ريتشارد فولك وسولمندلوفيتز بعنوان "السياسة الإقليمية والنظام الدولي"[2]، الذي ناقشا فيه الجدل بين العالمية والإقليمية، أصبحت الدراسات الإقليمية أحد موضوعات حقل العلاقات الدولية، وتبلور التمييز بين ثلاث، مستويات للتحليل: مستوى النظام الدولي الذي يركز على أنماط التفاعلات الدولية بين الدول العظمى والكبرى على مستوى عند قمة النظام، والذي شهد عدة نماذج مثل توازن القوى، والثنائية القطبية، والأحادية القطبية، والتعددية القطبية. ومستوى النظام الإقليمي الذي يركز على أنماط التفاعلات السياسية في إطار إقليم مُعين بعينه. ومستوى سلوك الوحدات المكونة للنظام الدولي والتي تشمل الدول والفاعلين من غيرها.
وما يهمنا في هذا المجال هو مستوى النظام الإقليمى، والذي دشنه كتاب كانتوري وشبيجل الذي طرح أهمية دراسة الأقاليم والعلاقات والتفاعلات التي تتم في إطارها، تحت اسم "النظام الإقليمي الفرعي subordinate regional system لأن أغلبية الدول ووحدات النظام الدولي تنطلق في سلوكها الخارجي من محددات ومصالح إقليمية، وفي إطار تفاعلها مع الوحدات الأخرى أعضاء الاقليم. كما أن هذا السلوك ليس مجرد ردود فعل أو امتداد لسياسات الدول الكبرى والعظمى. وارتبط بذلك ازدياد الاهتمام بموضوع التكامل الإقليمي وسبل تحقيقه والشروط اللازمة لقيامه واستمراره. كما ارتبط به مفهوم الأمن الإقليمي الذي أصبح له نظرياته ودارسوه، ومن أبرزها مدرسة كوبنهاجن للأمن التي أكدت على مفهوم كلي يشمل الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والعسكري. وظهرت مفاهيم مثل مجتمعات أو جماعات الأمن security communities والأمننةsecuritization وتفكيك الأمننة De-securitization.
من أهم الإسهامات النظرية في هذا الموضوع دراسات الاستاذ باري بوزان، التي بدأت بكتابه المُعنون "الشعوب والدولة والخوف: معضلة الأمن القومي في العلاقات الدولية" عام 1983،[3] وحتى كتابه المعنون "الأقاليم والقوة: هيكل الأمن الدولي" الصادر في عام 2003[4]، والتي طور فيها مفهوم "مركُب الأمن الإقليمي" Regional Security Complex. وظهر في هذا السياق، مفهوما القوى الإقليمية والهيمنة الإقليمية،ويقصد بالأول الدول التي تمتلك أدوات التأثير والنفوذ في داخل النظام بما يعطيها دورًا قياديًا في توجيه سلوك الأطراف الأخرى داخل النظام، أما "الهيمنة الإقليمية" فتحدث عندما تسعى تلك القوة إلى فرض رغباتها بأدوات القوة الخشنة عليهم.
واهتمت كل الدراسات المتعلقة بالإقليمية والنظم الإقليمية بتأثيرات العولمة على التفاعلات داخل الأقاليم والتشابكات العالمية- الإقليمية التي تطورت بفعل التطور التكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلومات والثورة الصناعية الرابعة.
وما يهمنا في هذا المجال هو مستوى النظام الإقليمى، والذي دشنه كتاب كانتوري وشبيجل الذي طرح أهمية دراسة الأقاليم والعلاقات والتفاعلات التي تتم في إطارها، تحت اسم "النظام الإقليمي الفرعي subordinate regional system لأن أغلبية الدول ووحدات النظام الدولي تنطلق في سلوكها الخارجي من محددات ومصالح إقليمية، وفي إطار تفاعلها مع الوحدات الأخرى أعضاء الاقليم. كما أن هذا السلوك ليس مجرد ردود فعل أو امتداد لسياسات الدول الكبرى والعظمى. وارتبط بذلك ازدياد الاهتمام بموضوع التكامل الإقليمي وسبل تحقيقه والشروط اللازمة لقيامه واستمراره. كما ارتبط به مفهوم الأمن الإقليمي الذي أصبح له نظرياته ودارسوه، ومن أبرزها مدرسة كوبنهاجن للأمن التي أكدت على مفهوم كلي يشمل الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والعسكري. وظهرت مفاهيم مثل مجتمعات أو جماعات الأمن security communities والأمننةsecuritization وتفكيك الأمننة De-securitization.
من أهم الإسهامات النظرية في هذا الموضوع دراسات الاستاذ باري بوزان، التي بدأت بكتابه المُعنون "الشعوب والدولة والخوف: معضلة الأمن القومي في العلاقات الدولية" عام 1983،[3] وحتى كتابه المعنون "الأقاليم والقوة: هيكل الأمن الدولي" الصادر في عام 2003[4]، والتي طور فيها مفهوم "مركُب الأمن الإقليمي" Regional Security Complex. وظهر في هذا السياق، مفهوما القوى الإقليمية والهيمنة الإقليمية،ويقصد بالأول الدول التي تمتلك أدوات التأثير والنفوذ في داخل النظام بما يعطيها دورًا قياديًا في توجيه سلوك الأطراف الأخرى داخل النظام، أما "الهيمنة الإقليمية" فتحدث عندما تسعى تلك القوة إلى فرض رغباتها بأدوات القوة الخشنة عليهم.
واهتمت كل الدراسات المتعلقة بالإقليمية والنظم الإقليمية بتأثيرات العولمة على التفاعلات داخل الأقاليم والتشابكات العالمية- الإقليمية التي تطورت بفعل التطور التكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلومات والثورة الصناعية الرابعة.
أولًا: مفهوم النظام الإقليمي
يشير مفهوم "النظام الإقليمي" إلى وجود تفاعلات وثيقة بين الدول المتجاورة جغرافيا. ويتفق أغلب الدارسين، في هذا المجال، على أن مفهوم "النظام الإقليمى" يتعلق بمنطقة جغرافية معينة، ويشمل ثلاث دول على الأقل، وألا يكون من بين وحداته دولة عظمى، وأن توجد شبكة معقدة من التفاعلات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تربط بين أعضائه. ويضيف بعض الدارسين إلى ذلك، ضرورة وجود تماثل اجتماعي وثقافي، أو وجود هوية إقليمية، والشعور بالتضامن والتكامل بين أعضاء النظام، أو السعي لذلك. ويميز دارسو النظام الإقليمي بين: دول القلب أو مركز النظام، ودول الأطراف، ودول الهامش.
و"دول القلب" هي تلك التي تمثل محور التفاعلات السياسية في النظام الإقليمي، وتشارك في الجزء الأكثر كثافة من تلك التفاعلات، وتحدد، من خلال ذلك، طبيعة المناخ السياسي السائد في النظام. أما دول الأطراف فهي أعضاء في النظام، ولكنها لا تدخل في تفاعلات مكثفة مع بقية وحداته، لاعتبارات جغرافية أو سياسية. وأخيرًا فإن دول الهامش، توجد على هامش النظام، وتُجاوره جغرافيا، ولكنها ليست منه، فدول الهامش هي بمثابة الجوار الجغرافي للنظام الإقليمي.
وإذا كان ما تقدم يُركز على عنصر الجوار الجغرافي، أو التماثل السياسي والاجتماعي، أو وجود هوية مشتركة كمعيار لتعريف الإقليم، فقد اقترح الأستاذان فرديركبريسون ووليام تومسون معيارًا آخر وهو كثافة التفاعلات بين الأطراف بغض النظر عن الجوار الجغرافي، وذلك على أساس أن الدول المتجاورة جغرافيا لا يُشترط بالضرورة أن تدخل في تفاعلات كثيفة مع بعضها البعض، وأنه من المُتصور أن تكون جزءًا من شبكة تفاعلات كثيفة مع دولة أو دول بعيدة جغرافيًا، وأن العامل الحيوي في تعريف النظام الإقليمي هو وجود قوة وكثافة التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين وحدات النظام [5].
وتتناول الدراسات المتعلقة بالنظم الإقليمية قضايا شتى مثل: السمات البنيوية للنظام، بمعنى الأوضاع والنظم السياسية والاقتصادية والاتصالية والاجتماعية...إلخ، ومستوى القوة وتوزيع عناصرها بين وحدات النظام، وكثافة التفاعلات بين أعضاء النظام وطبيعتها من تعاون ومُنافسة وصراع. ويتم التميز في هذا الصدد بين نوعين من العلاقات بين أعضاء النظام: علاقات القوة داخل النظام والتي تستند الى شكل توزيع (تركز أو تشتت) مصادر القوة، ويؤثر ذلك على نمط توازن القوى في الإقليم وإدراك أطرافه لمصادر التهديد، وعلاقات التعاون والصراع والتي تستند إلى عوامل كاللغة والتاريخ والاقتصاد والجغرافيا، وينتج عن هذين النوعين من العلاقات أنماط متنوعة للتحالفات والتكتلات والصراعات الإقليمية. كما تركز الدراسات الإقليمية على علاقة النظام ببيئته الخارجية التي تأخذ شكل نظم اقليمية أخرى والنظام الدولي [6].
ثانيًا: عناصر التغير في مكونات النظم الإقليمية وقضاياها
النظم الإقليمية ليست ثابتة أو جامدة، لكنها تتطور وتتغير بفعل عناصر ذاتية داخلية أو عناصر خارجية. العناصر الداخلية يمكن أن تتمثل في التغير في أشكال النظم السياسية والسياسات الاقتصادية المتبعة، وحدوث تغيرات جوهرية في نمط الإمكانات وتوزيع القوة بين وحدات النظام مثلما حدث في النظام الإقليمي العربي مع ظهور الثروة النفطية، أو الأزمات التي أصابت دولاً لعبت أدوارًا أساسية في مراحل سابقة مثل سوريا والعراق وليبيا.
أما العوامل الخارجية، فيمكن أن تتمثل في تغير أنماط العلاقة بين القوى المهيمنة في النظام العالمي ومجمل النظام الإقليمي أو بعض أعضائه، أو في تغير العلاقة بين النظام الإقليمى والدول المُجاورة له، مثلما حدث في حالة تغير نمط علاقات أعضاء النظام العربي بدول جواره الأساسية: تركيا وإيران وإسرائيل، والتي كان من شأنها تغير توازن القوى بين النظام العربي ككل وتلك الدول لصالحها. مما أوجد الظرف الموضوعي لبحث إمكانية إعادة تعريف النظام الإقليمي في ضوء العلاقات الجديدة بين وحداته وتلك الدول.
إن استمرار أو تغير النظم الإقليمية يرتبط أساسا بالممارسات العملية لأعضائه تجاه بعضهم البعض، وتجاه الأطراف خارج النظام، والافتراض الرئيسي لاستمرار أي نظام إقليمي هو قوة التفاعلات بين أعضاء النظام وكثافتها مقارنة بتلك التي تحدث مع دول أخرى، فإذا حدث تغير في هذه التفاعلات فإن النظام الإقليمي يصبح عرضة للتغير في ضوء الحقائق الجديدة.
في هذا السياق، شهدت المنطقة العربية والنظام الإقليمي العربي على مدى العقود الأربعة الأخيرة (1978 - 2018) أحداثًا وخطوبًا أثرت على حدود النظام، وبنيته، وهويته، وتوازن القوة فيه، وتفاعلات أعضائه مع دول الجوار والعالم. ويطول البحث في تلك التحولات، ولذلك سوف أركز على التحولات المرتبطة بالعلاقة مع دول الجوار التي تقع خارج النظام، أي تلك المؤثرة على تعريف النظام وتحديد من يقع بداخله ومن في خارجه.
1- التغير في أعضاء النظام
شهدت هذه الفترة تحولات أثرت على بعض الدول التي مارست أدوارًا قيادية أو مؤثرة من قبل. ومن نماذج ذلك، العراق، التي دخلت في أزمة عميقة بعد محاولة الغزو الفاشلة لدولة الكويت، والتي أدت إلى فرض حصار اقتصادي عليها لعدة سنوات وانتهي بالغزو الأمريكي لأراضيها في 2003، وازدياد التوجهات الطائفية والمذهبية، ثم ظهور تنظيم "داعش" وسيطرته على مساحات كبيرة، ثم انكساره في 2018. فقد أدت هذه التطورات إلى غلبة حالة عدم الاستقرار الداخلي في العراق، والتغلغل الواسع لإيران في مختلف مناحي الحياة فيه، وتوقف دوره في النظام الإقليمي.
ووقعت سوريا في براثن حرب ضروس جمعت بين سمات الحرب الأهلية، والحرب بالوكالة. وأصبحت الجغرافيا السورية مسرحًا للتدخلات السياسية والعسكرية من عديد من الأطراف العربية وإيران وروسيا والولايات المتحدة. ويتكرر نفس المشهد في ليبيا التي تسودها حالة من الانقسام السياسي والجهوي القبائلي مما جعلها مقصدا للعناصر الإرهابية الفارة الهاربة من العراق وسوريا. وتعرضت مصر، وهي الدولة الأكبر والأكثر تأثيرًا على مدى سنوات طويلة، إلى أزمة اقتصادية جعلتها تعطي الاهتمام الأكبر بمشاكلها الداخلية، وجاءت مرحلة الاضطراب السياسي بعد 2011 لتعمق هذا التطور.
وهكذا، سقطت دول لعبت أدوارًا إقليمية مؤثرة، وتراجعت أدوار دول أخرى، وانعزلت دول ثالثة مفضلة عدم الانغماس في تفاعلات النظام الإقليمي العربي، بينما زادت من دورها على المستوى الأفريقي والمتوسطي. وأدى ذلك إلى تغير في نمط توازن القوى الإقليمي فازداد دور دول مجلس التعاون الخليجي، ونشأ الظرف الموضوعي لازدياد أدوار تركيا وإيران واسرائيل.
2- التغير في هوية النظام
ارتبط النظام الإقليمي العربي منذ نشأته بمفهوم "العروبة"، والتي تتضمن عناصر اللغة الواحدة والثقافة العامة المشتركة وتماثل التطور التاريخي والانتساب الإسمي للدولة العثمانية. ومثل هذا الانتماء العربي عنصر قوة وتماسك للنظام، فهو النظام الإقليمي الوحيد في العالم الذي تتحدث فيه شعوب كل دوله بلغة واحدة، وسمح ذلك بالتفاعلات الفكرية والثقافية والأدبية والإعلامية بكثافة. وتظل هذه الرابطة من أهم أركان النظام الإقليمي العربي.
لكن هذه الرابطة تهددت بسبب عدة عوامل، منها التأكيد على الوطنية المرتبطة بالدولة، وظهور شعارات مثل "مصر أولاً" و"الأردن أولاً"، وسعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى بلورة هويات وطنية خاصة بها، ولا يوجد على هذا التوجه أي غبار في حد ذاته إلا عندما يرتبط بالانعزال أو الابتعاد عن "العروبة". من هذه العوامل أيضا تقلبات الحياة السياسية؛ فعندما وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد في 1978، وتم تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية، رافقها ملاسنات إعلامية قام كل طرف فيها بإهانة الآخر والتقليل من شأنه. وتكرر ذلك، فقد أدت المظاهرات التي قامت في عدد من الدول العربية، تأييدًا للغزو العراقي للكويت وقيام بعض المثقفين بتبريره، إلى ردود فعل غاضبة ومتطرفة أحيانًا عليه.
من هذه العوامل أيضا تحدي فكر الإسلام السياسي الذي طرح دائرة أوسع للانتماء، وأوجد تناقضا مصطنعا بين الإسلام والعروبة، وأدى ببعض الدول الى أن تُدخل في دساتيرها أن شعوبها جزء من الأمة العربية والأمة الإسلامية. وأخيرا، يمكن الإشارة أيضا إلى انبعاث الانتماءات الإثنية (الطائفية والمذهبية والقومية) والتي مثلت تهديدًا لكيان الدول العربية الراهنة، وسعت لنفي صفة العروبة عن الدولة. وبالفعل خلا الدستور العراقي مثلا من وصف العراق بأنها دولة عربية.
وهكذا، أدت هذه التطورات إلى اهتزاز أو تراجع مفهوم العروبة، وأوجد الظرف الموضوعي لدول الجوار الجغرافي غير العربية ليزداد دورها في تفاعلات النظام الإقليمي العربي.
3- التغير في إدراك مصادر التهديد
أحد أركان أي نظام إقليمي هو إدراك أعضائه بوجود مصادر تهديد مشتركة، وهو ما يدفعها إلى التعاون الأمني فيما بينها وبناء نظام أمنى يقوم على مبدأ الدفاع المشترك. وفي هذا المجال، أخفقت الدول أعضاء النظام العربي إخفاقًا واضحًا، ومع أنها وقعت في مطلع الخمسينات اتفاقية التعاون الاقتصادي والدفاع المشترك إلا أنها فشلت في تحويل ذلك إلى واقع ملموس بسبب الاختلافات فيما بينها وعدم الثقة المتبادلة. ليس هذا وحسب، بل إن القضية الفلسطينية التي اعتبرت لفترة طويلة قضية العرب الأولى تراجع شأنها في العقد الأخير لصالح هدف مكافحة الإرهاب أو الخصومة مع إيران.
لقد أدى التغير في إدراك مصادر التهديد إلى تغير أوضاع بعض دول الجوار، فعلى سبيل المثال لم تعد إسرائيل لأغلب الدول العربية هي المصدر الرئيسي للتهديد، بل إن بعض الدول العربية تجد نفسها في خندق واحد مع إسرائيل ضد إيران. كما أدى إلى نمط من التحالفات العربية مع دول الجوار الجغرافي، كالعلاقة بين قطر وكل من تركيا وإيران، والتحالف بين النظام الحاكم في سوريا وإيران، والعلاقات العسكرية والاقتصادية لتركيا مع عديد من الدول العربية.
هناك تطورات أخرى معروفة للباحثين والمتابعين للأوضاع في المنطقة، وكلها تدعو إلى إعادة التفكير في صلاحية المفاهيم التي اعتدنا عليها للتأكد من قدرتها على تفسير ما يحدث ومواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.
ثالثا: قضايا وأولويات بحثية
قادت العوامل السابقة إلى إثارة النقاش حول مستقبل النظام الإقليمي العربي، وخصوصا علاقته بدول الجوار الجغرافي تركيا وإيران وإسرائيل، وحول ما إذا كان من الممكن أن يتوسع هذا النظام ليشملها في سياق أوسع وذلك بعد حل الصراعات والخلافات القائمة معها. ويطرح ذلك عددًا من القضايا والأسئلة البحثية، من أهمها:
1- تعريف النظام
عندما تُثار قضية تعريف النظام يأتي إلى الذهن عادة الصراع بين مفهومي النظام العربي والنظام الشرق أوسطي، على أنه من الضروري بحث ثلاثة عناصر أخرى. الأول، يتعلق بالعلاقة بين النظامين، وهل من الضروري أن يكون من شأن إقامة ترتيبات وأبنية اقتصادية أو أمنية على مستوى الشرق الأوسط إضعاف مؤسسات النظام العربي؟ أم أنه يمكن تصور أن تنخرط الدول العربية في النظامين دون تعارض جوهري بينهما بنفس المنطق الذي تنخرط في الاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي؟
الثاني، عن أي شرق أوسط نتحدث؟ فهناك مفهومان للشرق الأوسط: المفهوم الشائع الذي تتداوله الدراسات الغربية والذي يركز على تركيا وإسرائيل ثم إيران في وقت لاحق، ومفهوم الشرق الأوسط الإسلامي الذي تتبناه إيران، والذي يدخل دولًا إسلامية أخرى كباكستان وأفغانستان. الثالثهو أن هناك دول جوار أخرى للوطن العربي مثل تشاد ومالي وغيرها.
2- إشكالية عضوية أكثر من نظام إقليمي
يثير تطوير العلاقة مع تركيا أو إيران قضية أن هاتين الدولتين تنتميان إلى نظم إقليمية أخرى، ومن ثم لابد من بحث تأثير تطوير العلاقة معهما على النظام الإقليمي العربي.فتركيا، تنظر إلى مجموعة من النظم الإقليمية كمناطق جوار لها كالنظام العربي، والاتحاد الأوروبي، وجمهوريات آسيا الوسطى المتحدثة باللغة التركية، وهو ما يسمى "العالم التركي"، الذي يمتد من بحر الأدرياتيك حتى الصين، وتضم: أذربيجان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقرقيزيا.
ويتمثل ذلك في عضوية تركيا في منظمة التعاون الاقتصادي (إيكو)، والتي تضم: تركيا، وإيران، وباكستان، وأفغانستان، وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، ومنظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود، والتي تشمل: تركيا، وروسيا، وأوكرانيا، وجورجيا، ومولدافيا، وبلغاريا، ورومانيا، واذربيجان، وارمينيا، واليونان، فضلا عن عضويتها في حلف الاطلنطي والمجلس الاوروبي، وكذا في منظمة المؤتمر الإسلامي.
أما بالنسبة لإيران فتتعدد أيضا مناطق جوارها؛ فهي تجاور النظام الإقليمي العربي، ودول آسيا الوسطى الإسلامية، وكل من باكستان وأفغانستان. ثم إنها بحكم طبيعة نظامها تعتبر العالم الإسلامي مجالا لحركتها.
3- مراحل ما بعد الصراعات
سواء استمرت عضوية النظام الإقليمي العربي على ما هي عليه، أو توسعت حدوده لتشمل دولاً أخرى، فإن على الدراسات المهتمة بهذا الإقليم أن تضع على قائمة أولوياتها الموضوعات التي تتعلق بأوضاع وسياسات ما بعد الصراع، والتي يختزنها في تعبير"إعادة الإعمار". والحقيقة، أن مرحلة ما بعد الصراعات وهدفها إعادة الأمن والسلم الاجتماعي لها أبعاد عمرانية واقتصادية ونفسية واجتماعية، فهي لا تكتفي بإعادة البناء المادي والاقتصادي، وإنما تسعى لتضميد الجراح وإعادة التأهيل النفسي للأطفال الذين ولدوا تحت قصف المدافع وأزيز الطائرات. وإلى جانب سوريا وليبيا واليمن والصومال، فإن هناك دولاً عربية تواجه أزمات اقتصادية طاحنة تؤثر على أداء الدولة وتجعلها عاجزة على الوفاء بمهامها الأساسية، والقضايا المتعلقة ببناء الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على مبادئ المواطنة، وإقامة المؤسسات الدستورية التي تحقق الفصل بين السلطات ومساءلة الحكام، وسياسات التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية.
أما إذا توسعت حدود النظام لتشمل دولًا أخرى أيًا كان شكل هذا التوسع وتسميته، فإنه يصطدم أيضا بآثار ما بعد الصراع. فالصراع التاريخي بشأن القضية الفلسطينية والحقوق التاريخية لشعب فلسطين أوجد جروحًا غائرة في النفس العربية، ولا يمكن تصور انتهاءها أو تجاوزها في وقت قصير، والدليل على ذلك مشاعر قطاعات واسعة من الرأي العام في مصر بعد أربعين عاما من اتفاقية السلام، وفي الأردن بعد ربع قرن من اتفاقية وادي عربة، ونفس الشيء ينطبق على العلاقات مع تركيا وإيران وإن كان بشكل مختلف نوعيا.
وأًيا كان الأمر، فإن المطلوب هو إقامة نسق للتفاعلات يقوم على احترام الحقوق الوطنية المشروعة والمنافع المتبادلة، وإشاعة مناخ التسامح ورفض التطرف، وعدم الانخراط في مباريات صفرية.
لقد سعت هذه الدراسة إلى طرح إطلالة عامة لقضية النظام الإقليمي العربي واحتمالات تطوره، وبحكم هدفها فقد اتسمت بالإيجاز –ربما المخل أحيانا- وربما أغفلت أيضًا موضوعات مهمة. وهي دعوة للتفكير في جدول أعمال الدراسات الإقليمية في مصر والبلاد العربية. إن الواقع المحيط بنا يتسم بالالتباس والتعقيد والاضطراب وسرعة التغير، وهو ما يتطلب مزيدًا من الفكر والتدبر.
[1] وسبق هذا الكتاب دراسات مهدت وفتحت الطريق له مثل:
Bruce M.Russet, International Regions and The International System: A Study in Political Ecology, (Chicago:iii: rand mcnally:1967), Michael banks, System Analysis and The Study of Regions, International Studies Quarterly, vol.13, (December 1969, pp.335-360.
And Louis j. cantori and steven l. Spiegel, International Politics of Region: A Comparative Approach, (Englewood cliffs, N.J:Prentice-Hall:1970).
[2] Richard A. falek and saul H. mendloviz (eds), Regional Politics and World Order, (San Francisco: Freemen:1973).
[3] Barry buzan, People State and Fear: The National Security Problem in IR, (London: wheatsheaf books: 1983)
[4] Barry buzan, Regions and Powers: The Structure of International Security, (Cambridge: Cambridge university press:2003)
[5] Frederic Stephen Pearson," Interaction in an International Political Subsystem: The Middle East 1963-1964". In Peace Research Society(International Papers), vol.15, 1970, p p 73-99. AndWilliam tompson, the regional subsystem: A conceptual explication and propositional inventory, International Studies Quarterly, vol.17 (March 1973), pp.89-119.
[6] لمزيد من التفاصيل أنظر: جميل مطر، د. علي الدين هلال، النظام الاقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية، ط1، (0بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،1979) ص ص 26-28.