د. عصام عبد الشافي
المعهد المصري للدراسات
يثير مفهوم العلاقات الدولية، العديد من الإشكاليات النظرية والتحليلية، حول تعريف المفهوم، وتداخله مع العديد من المفاهيم الأخرى التي تتشابه معه، حيث لا يوجد تعريف متفق عليه للمفهوم، كما أن هناك فجوة تفصل بين معنى المصطلح الشائع استخدامه فى الغرب (International Relations ) وترجمته الحرفية “العلاقات الأممية” ـ وبين الترجمة العربية الشائعة لهذا المصطلح وهي “العلاقات الدولية” فالعلاقات بين الأمم تختلف فى مفهومها ومضمونها عن العلاقات بين الدول. كذلك توجد مصطلحات أخرى تستخدم كمترادفات أو كبدائل للدلالة على نفس الموضوع رغم ما بينها من خلافات واضحة.
ومن هذه المصطلحات، مصطلح (International Affairs ) وترجمته الشائعة فى اللغة العربية هي “الشؤون الدولية”، ومصطلح (Intentional Politics ) وترجمته الشائعة “السياسة الدولية”؛ ومصطلح (Foreign Affairs ) وترجمته “الشؤون الخارجية”؛ ومصطلح (World Politics )، وترجمته “السياسة العالمية”، ومصطلح (Global Politics ) وترجمته “السياسة الكونية”.
وفى إطار هذه المصطلحات يرى البعض أن الخلاف بين الباحثين حول تسمية التفاعلات التي تقع خارج حدود الدول يدور حول محورين: الأول: يتعلق بماهية هذه التفاعلات، وما إذا كان من الأفضل تسميتها علاقات، أم شؤون، والثاني: يدور حول أطراف هذه التفاعلات، وهل الأفضل نسبتها إلى الأمم والشعوب أم إلى الدول أم إلى العالم ككل، وهنا تبرز الجدالات التالية:
1ـ أن الحديث عن “شؤون دولية”، وليس عن “علاقات” دولية”، قد ينطوي على الرغبة فى التأكيد على وجود فواصل أو حواجز بين الأبعاد المختلفة للتفاعلات الدولية، وأهمية التمييز بينها حسب طبيعتها ونوعها. ومن ثم، تبدو “الشؤون الدولية” وكأنها تتعلق بأحداث منفصلة فى طبيعتها، ولا رابط بينها. فهذه الأحداث قد تكون ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو رياضية، ولكل منها مجال خاص وميدان مستقل تتحرك فيه، وبالتالي له آلياته وقواعده الخاصة.
2ـ أن الحديث عن “علاقات دولية”، فقد ينطوي على الرغبة فى التأكيد على الطبيعية الديناميكية للتفاعلات التي
تتجاوز حدود الدول بصرف النظر عن نوع هذه التفاعلات وموضوعها، حيث ينظر إليها باعتبارها تشكل نسقا مترابط المكونات والأبعاد وتتفاعل عناصره ووحداته جميعها؛ حيث يؤثر كل مكون منها على الآخر ويتأثر به.
3ـ أن الاختلاف بين مصطلحات “الدولية” و”الأممية” و”العالمية” فيعكس اختلافا حول طبيعة الفاعلين الذين يشكلون الأطراف التي تصنع تلك التفاعلات أو “الأحداث” أو “الشؤون” أو “العلاقات”. ففي الوقت الذي كانت الدول أو الحكومات هي الأطراف الرئيسية الموجودة والفاعلة على المسرح الدولي، كان ينظر للتفاعلات الدولية على أنها محصلة علاقات بين دول أو بين حكومات فى المقام الأول؛ أي علاقات رسمية وذات طابع عام. أما التفاعلات الأخرى بين الأفراد والمجتمعات والعابرة للحدود والحواجز الجغرافية والسياسية، فلم يتم الاكتراث لها فى البداية، واعتبرت ثانوية وغير مؤثرة.
ومع مرور الوقت بدأت تبرز أشكال جديدة من الفاعلين الدوليين، وأصبح دور هؤلاء الفاعلين الجدد وتأثيرهم على مجمل التفاعلات الدولية لا يقل أهمية وخطورة عن دور الحكومات وتأثيرها. بل وأصبح للمبادرات الفردية والخاصة، وتحركات الأفراد والجماعات العابرة للحدود، والدوافع السياحية أو الثقافية أو الهجرة أو غيرها، دورا فاعلا ومؤثرا على نحو متزايد فى التفاعلات الدولية. وهذا ما يفسر كثرة المصطلحات المستخدمة لوصف وتأطير نفس الظاهرة، لأن لكل منها مضمونا وإطارا يختلف قليلا أو كثيرا عن الأخر.
وهنا تعددت محاولات التمييز بين المفاهيم المحورية المتداخلة، التي يثيرها تعريف العلاقات الدولية، ومن ذلك التمييز بين المجتمع الدولي والنظام السياسي الدولي، وبين السياسة الدولية والعلاقات الدولية:
أولاً: التمييز بين مفهومي “المجتمع الدولي” و”النظام الدولي”:
يشير مفهوم المجتمع الدولي إلى مجموع المجتمعات السياسية الفردية التي تسمى بالدول القومية، والتي تتكون كل واحدة منها من شعب وإقليم وحكومة واقتصاد فى إطار شخصية لها ذاتيتها القومية المميزة (الثقافة القومية) التي تعمل على توحيد هذا المجتمع فى مواجهة غيره من المجتمعات القومية المنافسة. ويتحقق المجتمع الدولي عندما يتاح له أن يضم فى عضويته هذه الدول القومية، وضمن هذه العضوية تحظى بعض الدول دون غيرها باعتراف دولي واسع بأنها دول كبرى ذات قوة ونفوذ ومكانه وتأثير.
أما مفهوم النظام الدولي، فعرّفه “ولتز” بأنه عبارة عن مجموعة من الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معها، وكان “ستانلي هوفمان” أكثر تحديداً فى رؤيته للنظام الدولي، فهو يرى أنه عبارة عن نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية، ويتحدد هذا النمط بطريق بنيان أو هيكل العالم، وقد تطرأ تغيرات على النظام مردها التطور التكنولوجي أو التغير فى الأهداف الرئيسية لوحدات النظام أو نتيجة التغير فى نمط وشكل الصراع بين مختلف الوحدات المشكّلة للنظام. أما “مورتون كابلان” فقد عرّفه بأنه “وجود مجموعة من القواعد والقيم والمعايير المترابطة التي تحكم عمل العلاقات بين الدول وتحدد مظاهر الانتظام والخلل فيها خلال فترة معينة من الزمن”.
ويختلف مفهوم النظام السياسي الدولي، عن مفهوم المجتمع الدولي، من عدة نواح، فالمجتمع الدولي هو المجتمع الذي ينتظم كافة الدول فى عضويته، وهو الذي يمنحها الاعتراف، كما أنه يتعامل معها جميعا على قدم المساواة دون تفرقة أو تمييز، وهو الذي يقر لها بصلاحيات السيادة الوطنية الكاملة وغير المشروطة على أراضيها، الخ، أما النظام السياسي الدولي فإنه أكثر تحديدا فى مفهومه وكذا فى الأسس التي يرتفع فوقها بنيانه.
فالتفاعلات والأنشطة السياسية الدولية، ينتج عنها أنماط مختلفة ونماذج متباينة من العلاقات التي تتركز حول أطر وهياكل تنظيمية معينة، كما أن تلك العلاقات تحكمها وتنظمها قواعد ومعايير سلوكية دولية محددة، هي القواعد والمعايير التي يمكن أن تتطور بالوقت وفق ما تقضى به معطيات الواقع وتفرضه متغيرات الظروف.
كذلك فإن النظام السياسي الدولي قد يكون عالميا، أو قاريا، أو إقليميا، وقد أخذ النظام العالمي طابعه المؤسسي المحدد مع عصبة الأمم أولا إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم تطور فيما بعد مع قيام الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن النظام السياسي الدولي، ليس مرادفا للأمم المتحدة مثلا، فهو أكبر من ذلك بكثير، فجانب الأمم المتحدة توجد منظمات دولية إقليمية عديدة، تمثل روافد لهذا النظام السياسي الدولي، وهى بما تحويه من أنشطة وتؤديه من أدوار، تؤثر فى أدائه وفى توجهاته، كما أن هناك الكثير من العلاقات الدولية التي تتم خارج إطار الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الإقليمية، وتؤثر بصورة أو أخرى فى أداء النظام السياسي الدولي.
ثانياً: التمييز بين مفهومي “السياسة الدولية” و”العلاقات الدولية”:
ينصب اهتمام السياسة الدولية على محاولة التعرف على الكيفية التي تتعامل بها الدولة، مع السياسات الخارجية التي تنتهجها القوى والأطراف الفاعلة فى النظام الدولي، وفى طليعتها الدول، سواء ما تعلق من ذلك بمواقف التعاون أو الصراع أو التعامل الروتيني المنتظم من خلال قنوات الاتصال والتنسيق والتشاور والتفاوض بالوسائل والأدوات الدبلوماسية المتعارف عليها دوليا.
أما العلاقات الدولية فيتسع إطارها ويمتد ليشمل كل صور العلاقات والمجتمعات والشعوب والجماعات الحاضرة فى الساحة الدولية أو بالأحرى التي يضمها المجتمع الدولي، فهي مجموعة العلاقات عبر القومية من سياسية وغير سياسية، من رسمية وغير رسمية، الخ.
وفى إطار هذا الجدل، يمكن التمييز بين ستة تيارات أساسية، فى تعريف العلاقات الدولية، هي:
الأول: يرى أن العلاقات الدولية هي “العلاقات بين الدول” ويهتم بالبحث عن أنواع الدول وأنماط العلاقات بينها، ودور الجماعات الأفراد فى صنع السياسة واتخاذ القرار فى هذه الدول.
الثاني: يرى أن العلاقات الدولية هي “العلاقات بين الأمم”، أي بين الحكومات أو بين الجماعات والأفراد التي تنتمي إلى أمم مختلفة والتي تثير موضوع قوة الدولة. وهذا التعريف يغفل بعض العلاقات التي لا تثير بالضرورة مشكلة قوة الدولة، ففي حين تتضمن التجارة الدولية ذلك البعد فإنه لا يثور فى مسألة أخرى، كالاتصالات البريدية كما أن هذا التعريف ينكر وجود وحدات دولية أخرى غير الأمم.
الثالث: يرى أن العلاقات الدولية هي “العلاقات بين مجموعات ذات قوة”، ويتسم هذا التعريف باتساع نطاقه لدرجة تظهر معها الحاجة إلى التمييز بين أنماط العلاقات السياسية والاقتصادية، والثقافية …، وتحديد أكثر دقة للمقصود بالجماعة ذات القوة.
الرابع: يرى أن العلاقات الدولية هي “العلاقات العبر قومية”، وهذا التعريف لا يقصر موضوع العلاقات الدولية على العلاقات الرسمية بين الدول ومن ثم فهو يشير إلى اتساع حدود ونطاق مجال دراسة العلاقات الدولية، ويرى البعض أنه من الأجدر التركيز على علاقات القوى بين الوحدات السياسية فى العالم.
الخامس: يرى أن العلاقات الدولية هي “العلاقات بين كل الجماعات التي تهم المجتمع الدولي ولكن مع التركيز على العلاقات بين الجماعات ذات الوزن الحقيقي فى التأثير على هذا المجتمع”، وهذا يثير صعوبة تحديد المقصود بالمجتمع الدولي والتحليل الهيراركي للمجتمعات المكونة له.
السادس: ينظر إلى العلاقات الدولية على أنها “العلاقات بين المجموعات الأساسية التي ينقسم إليها العالم وبصفة خاصة تلك القادرة على التحرك المستقل”.
وفي إطار هذه التيارات يمكن القول إن تعريف العلاقات الدولية يدور حول محورين أساسيين هما: أنماط العلاقات ونطاقها وطبيعتها، والوحدات الأساسية التي تقع بينها هذه العلاقات، وهو ما يثير التساؤل حول: الوحدات الأساسية في دراسات العلاقات الدولية، ومستويات تحليل الظاهرة الدولية، ونطاق امتداد مجال دراسة العلاقات الدولية، وهل يضم كل أنماط العلاقات بين كل الوحدات الدولية؟”
وهنا تبرز عدة ملاحظات:
1ـ أنه بالرغم من اعتراف الباحثين الغربيين بوجود تفاعلات دولية تشترك فيها وحدات من غير الدول القومية، إلا أنهم مازالوا يعتقدون أن الدولة هي وحدة التحليل الرئيسية. فبالرغم من ظهور منظمات دولية وهيئات فوق قومية خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وبالرغم من تأثير بعض الهيئات المحلية مثل الشركات على الشئون الدولية، إلا أن الدولة مازالت الفاعل الرئيسي فى العلاقات الدولية.
2ـ أنه مع تسليم الباحثين بأن الدولة هي وحدة التحليل الرئيسية فى تحليل العلاقات الدولية. إلا أن هناك اتجاهًا، ركز على إبراز أن دراسة الدولة قد شابها عدم اليقين على مستوى النظرية السياسية، الأمر الذي انعكس فى مجال دراسة المجتمع الدولي، فدراسة العلاقات الدولية تواجه نفس المشكلة، حيث برز الخلط بين الدولة والأمة. فمفهوم الدولة هو بؤرة المشكلة المفاهيمية لعلم العلاقات الدولية. وترتبط المشكلة تاريخيًا بإشكالية مفهوم الدولة فى الفكر الغربي وعدم الاستقرار على تعريفه وتحديد أبعاده. فهناك قدر من النسبية فى المفهوم، ومازال التداخل بينه وبين مفهوم القومية والأمة غامضًا وهو ما يثير قضية السيادة.
ـ إن البعد الإقليمي هو البعد المحوري فى تحديد ما هو دولي أو غير دولي، وإن كان التفاعل يتم على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، إلا أن تداخل البعد الداخلي مع البعد الدولي للدولة كوحدة إقليمية أثار عددًا من التساؤلات لدى بعض الباحثين، حيث أوضحوا أن تداخل المحلى مع الدولي يجعل مهمة الباحث فى العلاقات الدولية شديدة الصعوبة، فالداخل والخارج أصبحا متقاطعين بشكل يصعب فصله أو تجاهله والسياسة الداخلية تتأثر بالمناخ الدولي، كما أن أداء الدولة على المستوى الخارجي رهين بإنجازاتها وقوتها الداخلية.
ـ أنه مع تسليم الكتابات الغربية بأن هناك مبادئ وقواعد عامة فى افتراضاتها وأهدافها مثل الأيديولوجيات السياسية والمبادئ المستمدة من الأديان السماوية، بصفتها نظمًا عقائدية كونية، توجه رسالة إلى البشرية كلها، إلا أن بعض الباحثين، أشاروا إلى أنه بالرغم من أن هذه القواعد العامة مرتبطة بالطبيعة والسلوك البشرى، إلا أنها قابلة للانخراط والانجذاب نحو التجزؤ الإقليمي القائم لدى البشرية، بمعنى أنه يتم تنظيم هذه المبادئ إقليميًا داخل الحدود القومية القائمة وتعمل هذه القواعد العامة أو بعضها كمحددات للسلوك.
كما أنه لا توجد، أو من الصعب الوصول، إلى أيديولوجية خاصة مرتبطة بالإقليم أو الأقاليم التي لها نفس الظروف والخصائص اللازمة لوجود مثل هذه الأيديولوجية خاصة فى ظل غياب السلطة المركزية للعالم، أو فى ظل الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي، وغياب نسق من القيم والمفاهيم المشتركة الواجبة التطبيق والإتباع من قبل باقي الدول.