عبد الفتاح ماضي
ملخص
لم تهتم البحوث العربية والأجنبية كثيرًا بتأثير العوامل الخارجية في محاولات الإصلاح والتحول الديمقراطي في البلدان العربية، حتى كانت ثورات عام 2011 التي أظهرت أهمية تلك العوامل. استخدمت هذه الدراسة المنهج المقارن، لبحث تأثير المخاوف المتبادلة بين الأطراف الداخلية والخارجية، في عمليات الانتقال بعد عام 2011. إن عامل اللايقين المصاحب لأي انتخابات ديمقراطية ليس عاملًا محليًا في الحالات العربية؛ لأن قوى إقليمية ودولية ترى مصلحتها في منع الديمقراطية باعتبارها تهدد بتغيير الوضع الراهن. وانتهت الدراسة إلى طرح أربع إشكاليات متداخلة ذات صلة بالعامل الخارجي والثورات العربية، وخلصت أيضًا إلى أن العوامل الخارجية المعرقلة للديمقراطية في حالات أخرى غير عربية لم تكن حتمية؛ إذ ارتبط التعامل معها بالتغييرات التي شهدها النسق الدولي، وبظهور تكتلات ديمقراطية محلية تمتلك القدرة على الضغط لدفع القوى الخارجية إلى تغيير مواقفها.
تمهيد
تعالج هذه الدراسة عددًا من الإشكاليات التي تتصل بتأثير العوامل الخارجية في مسارات الانتقال في أعقاب الثورات العربية لعام 2011، وهي تطرح الأسئلة التالية: هل اختلفت الحالات العربية عن غيرها من الحالات التي سبقتها في ما يخص تأثير العوامل الخارجية في حالات الانتقال إلى الديمقراطية؟ وهل من استنتاجات نظرية أو أسئلة بحثية تطرحها الخبرات العربية وتحتاج إلى مزيد من البحث؟ وما الذي يمكن أن يضيفه استقراء الحالات العربية بعد ثورات عام 2011 والثورات المضادة لها عام 2013 إلى ما يتصل بهذه العوامل بصفة عامة؟
لم يكن من اليسير الإجابة عن سؤال دور العوامل الخارجية في حالات الانتقال الديمقراطي التي بدأت منتصف سبعينيات القرن العشرين في جنوب أوروبا، وما إذا قدّمت هذه العوامل حوافز للانتقال الديمقراطي في الحالات اللاتينية والآسيوية والأفريقية، وذلك لعدة اعتبارات. فالإجابة عن هذا السؤال تتصل بالجدل الدائر حول حدود مجالَي السياسة المقارنة
والعلاقات الدولية، وهي تتطلب أيضًا عبور مجال دراسة المناطق الشائع في دراسات تغيير نظم الحكم إلى مجالات بحث عابرة للمناطق والتخصصات، ودراسة الثقافات والقيم، فضلًا عن تتبع التطور التاريخي للدول وعلاقاتها المتبادلة. ويزداد الأمر صعوبة مع تعدد الفاعلين على المستوى الدولي من دول وكيانات فوق الدولة، أو دونها، ومع تداخل العلاقات بينهم. هذا علاوة على حالة السيولة التي يتسم بها النسق العالمي في صورته الحالية.
كان تركيز أدبيات الانتقال الديمقراطي لعدة عقود منصبًا على العوامل الداخلية بصفة عامة، وذلك ضمن بحثها في الظروف التي في سياقها يحدث الانتقال إلى الديمقراطية، والعوامل التي يمكن من خلالها أن يستمر النظام الديمقراطي الوليد وتترسخ دعائمه. وكان سبب هذا التركيز هو تأثر جُل الدراسات بالمداخل النظرية السائدة في العلوم الاجتماعية المعاصرة، وعلى رأسها مدخل العوامل الهيكلية Structure-oriented or Pre-condition Approach الذي يركز، في فهم عمليات الانتقال، على عوامل داخلية كمستويات النمو الاقتصادي والثقافة والصراعات الطبقية والبُنى الاجتماعية، مع تجاهل العوامل الهيكلية الخارجية للاستبداد كأوجه الدعم المادي والمعنوي للنظم المستبدة، والعوامل الثقافية المتصلة بمحاولات تصدير النماذج الغربية، وتأثير ديناميات الاقتصاد العالمي، وغير ذلك.
أما المدخل الثاني، فهو مدخل الانتقال الذي اهتم بالعوامل المتصلة باختيارات النخب، عاملًا مفسرًا لنجاح الانتقال أو فشله Process or Transition-oriented Approach. ويقتصر هذا المدخل على الفاعلين الداخليين، متجاهلًا أيضًا الفاعلين الخارجيين في جُل الحالات، فضلًا عن تجاهله السياقات والعوامل الهيكلية. وهناك مدخل ثالث يهتم بعلاقة الاقتصاد والسياسة، وتزامُن عمليتي الإصلاح الاقتصادي والسياسي، ودور الأزمات الاقتصادية في تحديد مصير الانتقال الديمقراطي Political Economy Approach. وهذا المدخل يركز على السياقات المحلية، ومن ثمّ لم يحظ أثر ديناميات الاقتصاد العالمي في التفاعلات المحلية بالكثير من الاهتمام. وثمة مدخل رابع ينطلق من دراسة ما سُمي العوامل المؤسسية كعلاقات الدولة والمجتمع، ودور منظمات المجتمع المدني في فهم نواتج الانتقال الديمقراطي Institutional Context-oriented Approach، وهذا أيضًا لم يهتم كثيرًا بدور المنظمات الدولية والإقليمية والمؤسسات المالية الدولية وتفاعلاتها مع الفاعلين المحليين.
تهتم هذه الدراسة بدور العوامل الخارجية تحديدًا في الحالات العربية بصفة عامة، مع الإشارة إلى أن الحالة المصرية ستحظى بقدر أكبر من البحث؛ وذلك على اعتبار أن إجهاض ثورة يناير 2011 ما كان له أن يتم لولا تداخل العوامل الداخلية والخارجية، وتأثير القوى الإقليمية والدولية في اختيارات النخب والقوى السياسية المصرية، فضلًا عن أثر الحالة المصرية الواضح في الحالات العربية الأخرى. وسيتم هذا بمنهجية تعتمد على المنهج الاستقرائي الذي يبدأ بملاحظة واقع ثورات عام 2011 العربية، اعتمادًا على الأدبيات والمصادر والبيانات والمواقف والتصريحات ذات الصلة، مع التركيز على تحليل العوامل الخارجية المتعلقة بمسارات الانتقال التي شهدتها الحالات العربية. يساعدنا استقراء هذه الحالات وتحليلها في الكشف عن طبيعة الأدوار الإقليمية والدولية في التأثير، سلبيًا أو إيجابًا، في اختيارات الفاعلين السياسيين المحليين في ما يخص مسألة الديمقراطية. كما يساعدنا هذا الاستقراء والتحليل في الكشف عن الإشكاليات التي نتجت من الصراعات والتفاعلات التي دارت حول جملة من المصالح والمخاوف، أو التهديدات، التي أثارتها ثورات عام 2011 على المستويين الإقليمي والدولي، والتي ساهمت في النهاية في تشكيل النواتج النهائية لمسارات الانتقال.
وتستخدم الدراسة أداة المقارنة متى تطلّب الأمر؛ وذلك لمقابلة الحالات العربية بغيرها من الحالات خارج العالم العربي، ومعرفة كيفية اختلاف هذه الحالات عن غيرها من حالات الانتقال، وما الذي يمكن أن تضيفه من مفاهيم ومقاربات. إنّ الفهم المعمق لأسباب تعثر الموجة الأولى من الثورات العربية يتطلب البحث في أدوار الفاعلين الداخليين والخارجيين أثناء إدارة المراحل الانتقالية، مع التركيز على طبيعة الصراعات التي كانت قائمة والتفاعلات المتبادلة بين هؤلاء الفاعلين، وكذا البحث في أثر السياقات المحلية والإقليمية والدولية في اختيارات الفاعلين.
تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء وخاتمة، نعرض في أولها باختصار موقع العوامل الخارجية في أدبيات الانتقال الديمقراطي عامة، مع إشارة سريعة إلى الحالات العربية. ونتناول في الجزء الثاني، وهو الجزء الرئيس من الدراسة، التأثير الإقليمي والدولي في مسارات الانتقال التي شهدتها الدول العربية بعد ثورات عام 2011 وذلك من خلال دراسة خمسة موضوعات، هي: نشأة الدولة القُطْرية وتطور علاقاتها بالخارج، والأضواء الحمراء والخضراء القادمة من القوى الدولية تجاه نظم الحكم العربية، ومحاربة الإرهاب ومسألة الديمقراطية، وعامل الإقليم المعادي للديمقراطية، وأخيرًا تراجع الديمقراطية وصعود التسلطية. وفي الجزء الأخير، نقف باقتضاب عند الكيفية التي تم من خلالها تبدل مواقف الأطراف الدولية في عدة حالات للانتقال خارج العالم العربي. وفي الخاتمة، نورد أبرز الخلاصات بشأن موضوع الدراسة، ونُجْمل بعض الأسئلة ذات العلاقة بأربع إشكاليات ترى الدراسة أنها جديرة بمزيد من البحث.