منذ سنة 2016، كانت مسألة الوضع القائم السابق والوضع القائم المستقبلي الغامض لما يُسمّى بالنظام الليبرالي هي المسألة المتكرّرة في التعليقات المرتبطة بالسياسة الخارجية. تساءل بعض الكتّاب ما إذا ظلّ النظام الليبرالي قائماً بالأساس مُتحدّين فضائله المزعومة، بينما سارع بعضهم الآخر إلى الدفاع عن مُنجزات النظام السابقة مُتحسّرين على زواله المحتمل.
لكن، وإذا كان هناك وعيٌ بين هؤلاء المُعلّقين المتباينين، فإنّه ذلك المتعلّق بالتهديد الخاص الذّي يفرضه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على القيادة الأمريكية للنظام الذّي أنشئت قواعده وأخذ مكانه منذ سنة 1945. يعتقدُ البعض أنّه لو حدث وصارت هيلاري كلينتون رئيسةً للبلاد، لظلّت الولايات المتحدّة حينها “الأمّة التّي لا غنى عنها” تقود العالم نحو مستقبلٍ حميد، ولكانت العناصر المألوفة لقواعد النظام مزدهرةً (أو سليمة على الأقل).
لا مجال للشكّ بأنّ ترامب يُولي أهميةً ضئيلةً لقيم الديمقراطية، حقوق الإنسان، حُكم القانون، وغيرها من القيم الليبرالية الكلاسيكية، كما يبدو خصوصاً أنّه متجاهلٌ لشركاء أوباما الديمقراطيين وليّناً قليلاً مع الأوتوقراطيين، إلاّ أنّه من الخطأ النظر إليه باعتباره السبب الوحيد –أو حتّى الأكثر أهميّةً- للتجاوزات التّي تشلّ الآن النظام الذّي تقوده الولايات المتحدّة. في الحقيقة، فقد تمّ زرع بذور مشكلاتنا الحالية قبل فترةٍ طويلةٍ من دخول ترامب إلى الساحة السياسية، وهي في قسمٍ كبيرٍ منها بسبب قرارات السياسة الخارجية التّي وُضعت من قِبل إدارات الرؤساء السابقين بيل كلينتون، جورج بوش الابن وباراك أوباما.
فلنعد بالتفكير إلى ربع قرنٍ مضى، إلى بداية “اللحظة الأحادية”، فبتمكنّنا من تحقيق الانتصار على الاتحاد السوفياتي، كان بإمكان الولايات المتحدّة أن تمنح نفسها مكانةً عُليا، أن تغتنم النصر وتتبنّى استراتيجية كبرى أكثر تلائماً مع عالمٍ من دون قوّة عظمى مُنافسة.
وبرفض النزعة الانعزالية، كان بإمكان واشنطن مع ذلك الانفصال التدريجي عن تلك المناطق التّي لم تعد في حاجةٍ إلى حمايةٍ أمريكيةٍ كبيرة، وخفض بصمتها العسكرية العالمية، في الوقت الذّي ينبغي أن تُبقي فيه التأهّب للتحرّك والفعل في بعض المناطق المفتاحية أمراً ضرورياً بالمطلق. كان من شأن هذه التحرّكات أن تُجبر حلفاءنا الأكثر ثراءً على تحمّل المزيد من المسؤولية فيما يتعلّق بالمشكلات المحليّة، في الوقت الذّي تتكفّل الولايات المتحدّة بمعالجة الاحتياجات الداخلية المُلحّة. كان بإمكان جعل “الحلم الأمريكي” أكثر واقعيةً في الديار هنا، وهو أمرٌ من شأنه أيضاً أن يُظهر للأمم الأخرى لماذا كانت قيم الحريّة، الديمقراطية، الأسواق المفتوحة وحكم القانون مسائلاً تستحق المُحاكاة والتقليد.
إلاّ أنّ بديلاً حسّاسا كهذا لم يكد يُناقش في الدوائر الرسمية. بدلاً من ذلك، فقد توحّد كلٌّ من الديمقراطيين والجمهوريين بسرعةٍ وراء استراتيجية “الهيمنة الليبرالية” الطموحة (Liberal Hegemony)، والتّي سعت إلى نشر القيم الليبرالية في الآفاق البعيدة. واقتناعاً بأنّ رياح التقدّم كانت على أهبّها مُبشّرةً بصورةِ أمريكا باعتبارها “الأمّة التّي لا غنى عنها” بالنسبة للعالم، فقد شرعوا في استخدام القوة الأمريكية لقلب الدكتاتوريين، نشر الديمقراطية، معاقبة ما سُميّ بالدول المارقة، وجلب ما يُمكن من البلدان إلى مؤسّساتٍ أمنيةٍ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. في الحقيقة، وبحلول سنة 2016، صارت أمريكا مُلزمةً رسمياً بالدفاع عن البلدان الأجنبية أكثر من أيّ زمنٍ مضى من تاريخ الأمّة.
ربّما كان لقادة أمريكا نوايا حسنة، إلاّ أنّ الاستراتيجية التّي اتّبعوها كانت في الغالب استراتيجية فاشلةً. اليوم، تُوصف العلاقات بين روسيا والصين بأنّها أسوءُ حالةً من أيّ زمنٍ مضى منذ نهاية الحرب الباردة، مع ذلك، فكلاًّ من عملاقيْ آسيا يتآمران ضدّنا مُجدّداً. علاوةً على ذلك، فقط تمّ تقطيع أواصل الأمل لحلّ الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، فضلاً أنّ بقيّة الشرق الأوسط مُقسّمٌ كما لم يكن من قبلُ أبداً. قامت كلٌّ من كوريا الشمالية، الهند، وباكستان باختبار الأسلحة النووية، كما وسّعت من مخزونها النووي، في حين انتقلت إيران من قدراتٍ تخصيبيه صفريةٍ لليورانيوم سنة 1993، إلى قربها من أن تصير دولةً نوويةً اليوم. تتراجع الديموقراطية عبر أنحاء العالم، ينشط المُتطرّفون العنيفون في أماكنٍ أكثر، الاتحاد الأوروبي في حالة تذبذبٍ وتأرجح، أمّا الفوائد المتفاوتة للعولمة فقد أنتجت ارتجاجا عنيفاً ضدّ النظام الاقتصادي الليبرالي الذّي روّجت له الولايات المتحدّة في السابق بنشاط.
لقد كانت كلّ هذه الاتجاهات جاريةً قبل فترةٍ طويلةٍ من أن يصير ترامب رئيساً، إلاّ أنّ العديد منها كان من شأنه أن يغدو أقلّ احتمالاً أو أقلّ وضوحاً لو حدث واختارت الولايات المتحدة مساراً مُختلفاً. في أوروبا، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تُقاوم صفّارات الإنذار التّي تُنذرُ بتوسّع الناتو وأن تتمسّك بالمبادرة الأصيلة المُسماة “بالشراكة من أجل السلام”، وهي مجموعةٌ من الترتيبات الأمنية التّي شملت روسيا. مع مرور الزمن، كان بإمكانها سحب وجودها العسكري بشكلٍ تدريجيٍ وإعادة الأمن الأوروبي إلى الأوروبيين. لم يكن ليشعر القادة الروس بأنّهم مُهدّدون، لم يكن لهم أن يُقاتلوا جورجيا أو يستولوا على القرم، وكان سيكون لديهم قليلاً من الأسباب أو أسبابٌ مُنعدمةٌ للتدخّل في مسألة الانتخابات الأمريكية سنة 2016، وكلّما يتولّى الاتحاد الأوروبي دوراً أمنياً أكبر، فلربّما دولٌ على غرار بولندا والمجر كانت لتصير أقلّ ميلاً لمغازلة النزعة الأوتوقراطية تحت غطاء الأمن المتمثّل في الضمانات الأمنية الأمريكية.
كانت الولايات المتحدة لتكون أكثر حكمةً لو تركت كلاًّ من العراق وإيران يُراقبان بعضهما البعض بدلاً من متابعة “الاحتواء المزدوج” في الخليج الفارسي، مُلغيةً الحاجة للمحافظة على آلافٍ من الجنود الأمريكيين في السعودية بعد حرب الخليج الأولى. ولو عملت واشنطن على الجانبيْن مُحدثةً تقدّماً تجاه “حلّ دولتين لشعبين”، لكان بالإمكان إزالة المصدرين الأساسيين لكراهية أسامة بن لادن القاتلة تجاه أمريكا، جاعلةً من هجومات الحادي عشر من سبتمبر أقلّ احتمالاً للحدوث. ومن دون 11/9، لم يكن من المؤكّد أنّنا ذهبنا لاجتياح واحتلال العراق أو أفغانستان، مُنقذين بذلك العديد من التريليونات من الدولارات وآلاف الأرواح الأمريكية والأجنبية. لم تكن للدولة الإسلامية أبداً فرصة الصعود، كما أنّ أزمة اللاجئين والهجمات الإرهابية التّي غذّت نزعة الكراهية اليمينية للأجانب في أوروبا كانت ستغدو أمراً أقلّ أهميّةً بكثير.
كان بإمكان ولايات متحدة أقلّ تشتّتاً بحروب الشرق الأوسط أن تتحرّك بسرعةٍ أكبر لمواجهة طموحات الصين المتنامية، كان ليكون لها مواردٌ مُتاحةٌ أكبر لإتمام هذه المهمّة الجوهرية. وبدلاً من الافتراض الساذج بأنّ صعود الصين سوف يغدو في نهاية المطاف صعوداً ديمقراطياً مُلتزماً بشكلٍ طوعيٍ بالقواعد الدولية القائمة، فبإمكان الولايات المتحدة أيضاً جعل دخول بيجين إلى منظمة التجارة العالمية أمراً متوقّفاً أولاًّ على ممارساتها التجارية الضارية ومُرسية لمؤسّسات أكثر شرعيةً وفعاليةً في الديار، بما فيها مسألة حريّة الملكية الفكرية.
علاوةً على ذلك، فإنّ مزيداً من الاهتمام بكيفية توزيع فوائد العولمة من شأنه أيضاً أن يحدّ من اللامساواة في الولايات المتحدة ويُخفّف من حدّة الاستقطاب الذّي يغتصب اليوم البلاد. ومثلما تُحاجج روسيلا زيلينسكي (Rosella Zielinski) في مقالها الأخير بمجلة الشؤون الخارجية، فإنّ تمويل حروبٍ خارجيةٍ عبر اقتراض المال (بدلاً من زيادة الضرائب) أمرٌ من شأنه أن يتيح العفو المالي السهل للأمريكيين الأكثر غنى بل ويسمح لهم بكسب فوائد الاقتراض المالي للحكومة الأمريكية، مفاقمين بذلك التفاوتات الاقتصادية القائمة. على هذا النحو، فقد ساعدت استراتيجية كبرى مُغرقةٌ في الطموح في جعل المساواة الاقتصادية أكثر سوءاً.
في النهاية، لم تكن استراتيجية كبرى أكثر تقيّداً وكبحاً لتُغري قادة الولايات المتحدة باستخدام التعذيب، الاستسلام غير الاعتيادي، عمليات القتل المستهدف، الرقابة الإلكترونية غير المُبرّرة، وغيرها من الأمور التّي تُمثّل خياناتٍ للقيم المركزية الأمريكية. كما أنّه كان بإمكانها أيضاً أن تُحرّر تريليونات من الدولارات التّي كان من الممكن إنفاقها تعزيزاً لقوّاتنا المُسلّحة، مُوفّرةً رعايةً صحيّةً أفضل للمواطنين الأمريكيين، معيدةً بناء البنية التحيّة المتداعية لأمريكا، مُستثمرةً في التعليم المتعلّق بالمراحل المُبكرّة للأطفال أو مُخفّضةً من العجز المستمر.
لنكون واضحين: فإنّ القول بالفشل الغالب لاستراتيجيتنا لا يعني القول بأنّ الولايات المتحدة فشلت في كلّ شيء، أو أنّ العالم كان ليكون مثالياً اليوم إذا ما تمّ اختيار القادة الأمريكيين بشكلٍ مختلف. لكن، حينما ينظر المرء إلى الخلف، إلى النتيجة التّي خلّفتها متابعةُ استراتيجية “الهيمنة الليبرالية”، فلن يكون هناك أدنى شكّ بأنّ مقاربةً مختلفةً كان من شأنها أن تترك الولايات المتحدة (والعديد من البلدان) على شاكلةٍ أحسن بكثير. كما أنّ النظام الليبرالي الذّي صار الكثيرون الآن يائسون من إنقاذه كان من شأنه أن يأخذ شكلاً أحسن بكثير.
كذلك، فمن غير المستساغ تخيّل فائدةٍ واحدةٍ إضافية: ما كان ترامب ليكون رئيساً. فلنرجع إلى سنة 2016، حينما وصف ترامب السياسة الخارجية الأمريكية بكونها “كارثةً تامةً ومُطلقة”، حينها هزّ كثيرٌ من الأمريكيون رؤوسهم موافقةً وأدلوا بأصواتهم لصالحه. للأسف، فقد نجح تعامله العدائي غير المنتظم، عديم الكفاءة وعديم الجدوى تجاه السياسة الخارجية فقط في جعل أمريكا أقلّ شعبيةً وتأثيراً من دون تقليلٍ لأيٍّ من أعباءها العالمية. لا تزال الولايات المتحدة قوةً مساعدةً على “بناء الأمم”، لا تظلّ تشنّ حروباً في المناطق النائية من العالم، مُنفقةً على الدفاع أكثر ممّا تفعله الدول الثماني الأكثر إنفاقاً بعدها مُجتمعةً، كما لا تزال تُدعّم مالياً عدداً من الحلفاء الأثرياء.
يتحسّر الآن المدافعون عن حماقاتنا الماضية ويتذمرّون من تردّد الأمريكيين في دعم ذات الاستراتيجية العالمية المُتسبّبة في خيبات آمالٍ كثيرة، إلاّ أنّ للجمهور كلّ الأسباب ليرفض مقاربةً تجاه العالم بائت بالفشل مراراً وتكراراً، وله الحقّ في المطالبة ببديلٍ أفضل.
اعتقد بعضُ الناخبين خطئاً بأنّهم سيحصلون على هذا البديل من ترامب، إلاّ أنّه لم يُسلّمه، وفي الغالب لن يفعل ذلك. يبقى التساؤل المطروح هنا: ما الذّي سيتطلّب فعله (ومن هي الجهة الفاعلة) قبل أن يحصل الشعب الأمريكي على سياسيةٍ خارجيةٍ أكثرُ تقيّداً وكبحاً كما يريد ويستحق؟
عنوان ورابط المقال الأصلي
ستيفن والت، أستاذ الشؤون الدولية بمدرسة جون كيندي التابعة لجامعة هارفرد الأمريكية، وأحد الروّاد المعاصرين لتيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة، آخر كتبه: “جحيم النوايا الحسنة: نخب السياسة الخارجية الأمريكية وانحدار الريادة الأمريكية” سنة 2019[1].