اعتادت بعض مراكز الأبحاث والتفكير في عدد من دول الإقليم في نهاية كل عام أن تصدر تحليلا مجمعا، يعكس رؤى الخبراء والباحثين العاملين فيها، بشأن الاتجاهات الرئيسية الحاكمة لمسار التحولات الداخلية والتفاعلات الإقليمية في العام الحالي (2019)، استنادا لظواهر ومؤشرات بارزة في العام السابق (2018)، بل وربما انكشفت ملامحها في أعوام سابقة، وإن كان جوهر الاختلاف يتمثل في درجة الحدة والنطاق.
في هذا السياق، وفي إطار أنشطة وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، حاول خبراء وباحثو الوحدة استخلاص مجموعة الاتجاهات الأساسية في إقليم الشرق الأوسط خلال عام 2018، واستشراف مساراتها المتوقعة خلال عام 2019. وقد تم مناقشة هذه الاتجاهات في ورشة عمل للوحدة، أدارها د. محمد عز العرب، رئيس الوحدة، وبمشاركة كل من د. محمد عباس ناجي، رابحة علام، شيماء منير، أحمد كامل البحيري، حسين سليمان.
وقد انتهى النقاش إلى تحديد عشرة اتجاهات رئيسية متوقعة لمسار التفاعلات بإقليم الشرق الأوسط خلال العام 2019.
1- تمدد "الاستقرار الهش" في غالبية دول الإقليم
يتأسس هذا الاتجاه على عودة حركة الشارع ممثلة في الاحتجاجات المناطقية والتظاهرات الشعبية التي شهدتها عدة مدن في بعض دول الشرق الأوسط مثل السودان وتونس والمغرب واليمن ولبنان والأردن والعراق وإيران، في توقيتات مختلفة من العام 2018، الأمر الذي يعكس اتساع دائرتها، وارتباطها بأبعاد سياسية، ومحفزات اقتصادية، وفجوات اجتماعية، مثل انسداد الصراع السياسي في بعض الدول، وتراجع قيمة العملات الوطنية، وتواضع مستوى الخدمات الحكومية، وانخراط القوى الإقليمية في الصراعات العربية الداخلية، وهو ما يعكس في الكثير من الحالات تراكم الأزمات، خاصة في مناطق بعينها التي صارت "نقاط اشتعال" دون أن تصل إلى حد "الثورات الشعبية".
وقد فتحت هذه الظواهر الجدل حول ما يمكن اعتباره موجة ثانية من الحراك الثوري الذي شهدته دول عربية عدة في نهاية 2010 وبداية 2011، لاسيما في ظل استمرار نفس المشكلات الاقتصادية التي كانت تعاني منها المجتمعات في هذه الدول خلال العام 2018، في حين برز في بعضها البعد السياسي لاسيما في حالة السودان حيث عاد شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" مرة ثانية. فضلا عن انتقال عدوى احتجاجات حركة السترات الصفراء من فرنسا إلى تونس والعراق.
ومن المرجح استمرار تلك الاحتجاجات خلال العام 2019 لغياب الحلول "المتعددة الأبعاد" التي تبلورها الحكومات في الإقليم للتعامل مع تلك المشكلات. فالاستقرار السياسي يتوقف على قدرة الدولة على استعادة الأداء المتوازن للاقتصاد، وتخفيف حدة الضغوط التي تواجهها الشرائح الاجتماعية الأقل دخلا، وتوفير الوظائف العامة، وإصلاح هياكل الأجور، بالإضافة إلى تعزيز الموارد الوطنية للاستمرار في تقديم وتحسين أداء الخدمات العامة، وهو متعذر حدوثه في غالبية الدول المذكورة أعلى لاسيما القدرة على استيعاب الضغوط الاقتصادية، على نحو يرجح استمرار تلك الاحتجاجات لتبدو في شكل موجات متقطعة تظهر أحيانا وتختفي أحيانا أخرى.
واللافت للنظر أن احتجاجات الشارع لم تكن اعتراضا على أوضاع وسياسات داخلية، بل كانت في بعض الحالات لمواجهة سياسات خارجية، وهو ما برز في احتجاجات البصرة التي استهدفت القنصلية الإيرانية. كما أن الاحتجاجات التي شهدتها مدن إيرانية عديدة، على سبيل المثال، كانت بمثابة رد فعل على الانخراط الإقليمي لطهران في الصراعات العربية بتوجيه الأموال أو تدفق المقاتلين، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإيراني من مشكلات حادة.
2- تزايد معضلات تماسك الحكومات الائتلافية
فقد برزت المشكلات أو الأزمات التي واجهت تشكيل -أو أدت إلى انهيار- الحكومات الائتلافية، كما حدث في تونس ولبنان والعراق وإسرائيل، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، خلال العام 2018، لاسيما في ظل تآكل قدرة مختلف القوى السياسية والحزبية على تحقيق الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية التي تؤهلها لتشكيل الحكومة دون الائتلاف مع غيرها من الأحزاب والقوى السياسية. ويمكن تفسير هذه الظاهرة استنادا إلى مجموعة من العوامل، منها تعمق الانقسامات داخل الأحزاب الحاكمة، والنفوذ المتزايد لبعض الأطراف السياسية الداخلية،وغياب الكتلة البرلمانية الداعمة لرئاسة الحكومة، وكثرة الأحزاب السياسية الصغيرة، والتباين في الرؤى بين شركاء الائتلاف الحاكم تجاه الأزمات الخارجية أو التهديدات الأمنية.
وعلى سبيل المثال، سوف تشهد إسرائيل انتخابات مبكرة في الثلث الأول من العام 2019، على خلفية التحقيقات التي وجهت اتهامات بالفساد لرئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو وبعض مساعديه ورموز من حكومته. كما وعد سعد الحريري، الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية، خلال زيارته رئيس الجمهورية ميشال عون، في قصر بعبدا في الأول من يناير 2019 بحكومة قبل 19 يناير 2019، والذي يسبق عقد القمة الاقتصادية العربية ببيروت في 19 و20 يناير. واعتبر الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في خطابه بمناسبة نهاية السنة الإدارية "إن عام 2019 سيكون عاما مفصليا، لكونه يمثل نهاية الولاية الرئاسية والبرلمانية، كما سيشهد انتخابات هي الثانية منذ إصدار دستور جديد للبلاد عام 2014".
3- محورية دور الدين في التفاعلات الداخلية الإقليمية
على الرغم من أن هناك اتجاه في الأدبيات يشير إلى الانحسار السياسي للدين في الشرق الأوسط، على اعتبار أن المصالح الاستراتيجية باتت هي المحدد الحاكم للتفاعلات الإقليمية بما يتجاوز الانقسامات الدينية أو الطائفية، خاصة على أرضية ثنائية (السنة- الشيعة) التي تعكس صراع بعض القوى الإقليمية أو تراجع فرص صعود التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم في بعض الدول في مرحلة ما بعد الحراك الثوري العربي. غير أن هناك اتجاها آخر، يرى استمرارية لهذا الدور حيث شهد العام 2018 نماذج دالة لمحورية دور الدين في تفاعلات الإقليم. فقد وظفت القيادة التركية العامل الديني في ظل أزمتها الاقتصادية الداخلية في منتصف العام 2018 من خلال إعطاء بعد ديني للتوتر في العلاقات التركية الأمريكية، عبر عنها قوله في رسالة مصورة بمناسبة عيد الأضحي في 21 أغسطس 2018 إنه "لا فرق بين من يهاجم اقتصادنا، وبين من يهاجم صوت أذاننا وعلمنا، الهدف واحد، وهو هزيمة الشعب التركي وإرجاعه ووضعه تحت الوصاية"، مؤكداأن"من فشلوا في هزيمة تركيا بآلاف الحيل والمكائد، سيرون قريبا فشلهم بمحاولتهم إخضاعها عن طريق النقد الأجنبي". وأضاف "إن شاء الله بلدنا يتمتع بالقوة والقدرة والدراية، وهو ما يمكنه من تخطي كل الأمور التي تواجهه، فيكفينا أن نتوحد".
كما ظهر تأثير الدين في سياق المساومة على الملفات الخلافية بين القوى الإقليمية والدولية، على نحو ما اتضح جليا في العلاقات الأمريكية- التركية، على خلفية اتهام أنقرة القس الأمريكي، أندرسو برانسون، بالإرهاب والتجسس، ما أدى إلى حدوث أزمة بين البلدين، حيث رفضت الإدارة الأمريكية عرضا من أنقرة بالإفراج عن القس المحتجز لديها مقابل إلغاء الولايات المتحدة التحقيق في قضية انتهاك بنك خلق الحكومي التركي للعقوبات المفروضة على إيران وإعفائه من غرامات مرتقبة قدرت بمليارات الدولارات.
فقد قال ترامب في تغريدة له على تويتر بتاريخ 16 أغسطس 2018 إن "تركيا استغلت الولايات المتحدة لسنوات. إنهم يحتجزون قسنا المسيحي الرائع الذي سأطلب منه الآن أن يمثل بلدنا كرهينة وطني". مضيفا "لن ندفع شيئا من أجل إطلاق سراح رجل بريء، لكننا سنخنق تركيا". وفي نهاية المطاف، أفرجت أنقرة على القس الأمريكي في أكتوبر الماضي، بعد تغيير أربع شهود أقوالهم، وسمحت له المحكمة بمغادرة البلاد.
في هذا السياق، قال الرئيس ترامب، في 13 أكتوبر 2018 في كلمة له أثناء لقاء برانسون (بعد عودته من تركيا التي قضى بها عامين) "إن الولايات المتحدة لديها فرصة حاليا لبناء علاقة رائعة مع تركيا"، مخاطبا القس "لقد خضنا مفاوضات طويلة وشاقة". في حين ركع القس بجانب ترامب على أرضية المكتب البيضاوي ووضع يده على كتفه وصلى من أجل أن يمنحه الله "حكمة خارقة"، وهو ما يعكس تصاعد دور العامل الديني في العلاقات الإقليمية والدولية، بل ودور الأفراد أيضا، لاسيما إذا أضفنا الجدل الذي أحدثه مقتل الصحفي جمال خاشقجي في أكتوبر 2018.
كما انتشرت الاستقطابات السياسية على خلفية قضايا دينية، إذ تصاعد الجدل في تونس خلال العام 2018 بشأن إعلان الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي عن اعتزامه طرح مشروع قانون يتعلق بالمساواة في الميراث بين الجنسين. وجاء هذا الإعلان بناء على مقترحات لجنة الحقوق الفردية والمساواة التي شكلها السبسي في العام 2017 بهدف إعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات بالاعتماد على بنود الدستور التونسي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما أدى إلى انقسام المجتمع التونسي وإثارة الاستقطاب، لكن تم إقرار القانون في نوفمبر 2018.
هذا فضلا عن تنظيم العديد من المؤتمرات حول تجديد الفتوى، والملتقيات العربية والإقليمية لتعزيز رسالة الإسلام في المجتمعات العربية، على نحو ما قامت به دول عربية مثل مصر والسعودية والإمارات، وتشكلت منصات دائمة للحوار بين أتباع الديانات وتعزيز العيش المشترك ومحاربة نزعات التطرف والكراهية، بمشاركة قيادات إسلامية ومسيحية بارزة من مختلف دول العالم. ومن المتوقع أن يستمر هذا النهج لتغيير الصورة النمطية الملتصقة بالإسلام، وتعزيز أدوار بعض الدول في علاقتها مع الخارج.
4- تحدي دمج الميلشيات المسلحة في بنية الجيوش النظامية
إذ صارت تلك الميلشيات أقرب إلى "الجيوش الموازية" العابرة للحدود الوطنية، في بعض الأحيان، وهو ما ينطبق جليا على الميلشيات العسكرية والكتائب المناطقية في ليبيا، والحوثيين في اليمن، وميلشيات الحشد الشعبي في العراق، علاوة على الدور المركزي لحزب الله في لبنان، وحركة طالبان في أفغانستان، لاسيما بعد تمدد دورهم وخاصة في ظل اتجاهات حاكمة لتفكيرهم بتأطير فراغات السلطة وتعثر مهام الدولة مع إطالة أمد الصراعات.
فقد نازعت تلك الميلشيات المؤسسات العسكرية والأمنية للدولة في القيام بأدوارها التقليدية، في إطار نظرية الفراغ، بعد أن كانت تمثل المعارضة المسلحة المرفوضة مجتمعيا في غالبية دول الإقليم، وصارت أداة سياسية يتم الضغط بها على استقرار الدول والتلويح بتدخلاتها العسكرية خاصة مع وجود حواضن شعبية لها في حال عدم إيجاد مصادر سلطة أو مواضع نفوذ لها ضمن صيغ التفاهمات مع القوى السياسية المتنازعة والأجنحة العسكرية المتصارعة.
كما تمتلك هذه الميلشيات موارد اقتصادية، وتستحوذ على قدرات تسليحية تقترب من نمط تسليح الجيوش النظامية، إذ تجيد استراتيجيات دفاعية وهجومية في مسارح عمليات مختلفة، وتمزج بين الوسائل التقليدية والحديثة، وتدير علاقات خارجية مع قوى دولية كبرى وإقليمية رئيسية وفاعلين عنيفين من غير الدول. على سبيل المثال، صار الحوثيون رقما مهما في التفاعلات الداخلية اليمنية، وبات حزب الله يعرقل أي تشكيل حكومي يتعارض مع رؤاه في لبنان، وتعرقل ميلشيات مناطقية مختلفة أية اتفاقات سلام محتملة بين حفتر والسراج في ليبيا. الأمر ذاته، فيما يتعلق بالمجموعات المنضوية ضمن الحشد الشعبي التي سعت إلى ترجمة انتصاراتها الاستراتيجية إلى نفوذ سياسي في خلال عام 2018، وستواصل ذلك خلال العام 2019.
سيظل هذا الفراغ قائما خلال العام 2019 في عدد من دول الإقليم، بما يعطي الفرصة للفاعلين العنيفين ما دون الدولة إلى ملئه، خاصة الفاعلين الذين دعموا الأجهزة النظامية في مواجهة التنظيمات الإرهابية. ويرتبط بذلك تحد استعادة الاتزان والتماسك الداخلي في عدد من الدول العربية في ظل انتشار الفاعلين المسلحين ما دون الدولة.
5- استمرار تعقد حسم الصراعات الداخلية العربية ذات الأبعاد الإقليمية
يصدق ذلك على السودان، وليبيا واليمن. إذ لا توجد مؤشرات توحي بأن تلك الصراعات في طريقها للحل، بل هناك اتجاه يرى أن بعض هذه الصراعات قد تتجه لمزيد من التعقيد. ربما يظل الاستثناء المحتمل هو حالة سوريا الأقرب لحسم الحرب في صالح قوات الجيش النظامي السوري. يستند ذلك الاحتمال إلى العروض السياسية السرية والعلنية والتي انهالت على النظام السوري مؤخرًا من جانب بعض خصومه الدوليين. وتتمحور تلك العروض حول قضايا عدة، أبرزها شكل النظام السياسي بعد انتهاء الصراع، ومستقبل العلاقة بين النظام وإيران، ومسألة إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب. فقد انتقل الصراع إلى مرحلة تقاسم نطاقات النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية المتدخلة مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا. وتعكس تلك العروض مجموعة دلالات، أهمها انتهاء المراهنة من جانب خصوم النظام على المسار العسكري للأزمة بعد تسيد النظام للمشهد، واستمرار نجاحات النظام السوري في إعادة تأهيل نفسه داخليًا وخارجيًا، والاستعداد الأمريكي لتقبل الانتصار العسكري الوشيك للنظام، وهو ما عكسه بدء حديث الولايات المتحدة عن الانسحاب من سوريا.
ويبدو رهان واشنطن الوحيد حاليًا هو التمهيد لمفاوضات مع النظام وحلفائه، بشكل يُفضي إلى التوصل إلى اتفاق سياسي بعد انتهاء الحرب يكفل لها حد أدنى من الكرامة الدولية بعد فشلها العسكري في سوريا. فنهاية الحرب في سوريا باتت وشيكة أكثر من أي وقت مضى، ولعل ذلك لا يعود إلى هزيمة تنظيم داعش، وإنما بسبب عزل جماعات المعارضة المسلحة بشكل متزايد، وقدرة نظام الأسد على مساعدة حلفائه الإقليميين والدوليين على استعادة الأراضي التي كان يسيطر عليها، والتي بلغت أكثر من 60 في المئة، وفق تقديرات معهد الحرب الأمريكي.
ومن المتوقع أن تستمر المحاولات الإقليمية والدولية لتسوية الصراعات المزمنة في الإقليم، خلال العام 2019، غير أن نتائجها لا تقود إلى تسوية مستقرة طويلة المدى، بل أقصى ما يمكن التوصل إليه هو التسويات الجزئية نظرا لاختلاف مصالح القوى الإقليمية والدولية الداعمة للأطراف الداخلية المنخرطة في هذه الصراعات. على سبيل المثال، أخفقت كل من روسيا وإيران وتركيا في تشكيل لجنة لوضع دستور سوري دائم للبلاد في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب. كما أن إعلان استوكهولم في ديسمبر 2018، برعاية الأمم المتحدة، أسفر عن اتفاقات جزئية للصراع اليمني، لاسيما ملف تبادل السجناء والمعتقلين، والإدارة الأممية لميناء الحديدة، في حين لم يتم مناقشة قضايا التسوية النهائية.
6- استعادة تدريجية للعلاقات العربية مع النظام السوري
يتأسس هذا الاتجاه على حزمة من المؤشرات، أبرزها زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى سوريا في 16 ديسمبر 2018، وإعلان الإمارات افتتاح سفارتها في العاصمة السورية دمشق في 27 ديسمبر 2018، والمرونة السعودية تجاه مسألة بقاء بشار الأسد في السلطة، والتطبيع التجاري التدريجي بين السعودية والنظام السوري عبر معبر نصيب بين الأردن وسوريا منذ أكتوبر 2018. كما أبدت تركيا على لسان وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، خلال مشاركته في منتدى الدوحة يوم 16 ديسمبر، استعدادها للعمل مع الأسد إذا اُختير عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة تحت إشراف أممي. فضلا عن إعلان موريتانيا مؤخرا زيارة رئيسها محمد ولد عبد العزيز لسوريا خلال يناير 2019.
ويأتي هذا التحول الإقليمي والعربي، خاصة الخليجي تجاه النظام السوري، نتيجة مجموعة من المتغيرات، أهمها النجاحات العسكرية التي حققها النظام السوري، والمخاوف من صعود تنظيم داعش مجددًا، وتوقعات التراجع النسبي في الدور الإقليمي السعودي، ورفع درجة الحرج في الموقف الخليجى من بعض القضايا ومن ضمنها الموقف من النظام السوري، والتكيف مع الاستعداد الأمريكي لتقبل الانتصار العسكري للنظام، والاتساق مع تحولات السياسة الخارجية للحلفاء.وقد يكون الأقرب حاليًا لتفكير النظام السوري هو التدرج البطيء في تطبيع العلاقات مع الدول الخليج من بوابة الجامعة العربية عبر فك تجميد عضويته بها في الوقت الراهن.
وقد يلجأ النظام السوري خلال العام 2019 إلى تطبيع علاقاته بشكل تدريجي مع الدول العربية على حدة. ويبدو أن قدرة النظام السوري على قبول تطبيع العلاقات مع الدول الخليجية مقابل فك ارتباطه بإيران ليس أمرًا يسيرًا في ظل النفوذ الإيراني الكبير داخل المؤسسات السورية، والذي تراكم خلال السنوات الماضية، وربما قد تلجأ الدول العربية إلى الوسيط الروسي كمدخل لتدعيم علاقتها مع روسيا على اعتبار أن الأخيرة هي الفاعل الرئيسي في الأزمة السورية.
7- تراجع نسبي لعمليات التنظيمات الإرهابية في الإقليم مع بقاء خطرها
يستند هذا الاتجاه إلى مؤشرات عدة، أبرزها تنشيط فروع داعش بعد استهداف مناطق تمركزه الرئيسية، وانهيار خلافته على الأرض؛ إذ يسعى التنظيم إلى ممارسة نشاطه وجذب عناصر جديدة وتنفيذ عدد من العمليات على فترات متقطعة. فقد أصبحت قيادة تنظيم داعش أقل مركزية، وأكثر اعتمادا على مجموعات صغيرة. وباتت المسئوليات تُوزع على القادة المحليين فيما يتم التشجيع على تنفيذ الهجمات في الخارج بواسطة المتعاطفين والأتباع باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات التواصل المشفرة والإنترنت "الأسود".
ومع هذه التداعيات، تتزايد خطورة التهديد الإرهابي الذي يمثله التنظيم إقليميا ودوليا. فعلى الرغم من الانحسار النسبي لتنظيم داعش في العراق وسوريا، إلا أنه عاد مرة أخرى في المناطق الحدودية السورية العراقية، وتمكن من الانتقال إلى نقاط أو بؤر التمركز البديلة مثل ليبيا. كما تنتشر الخلايا والجماعات المحلية التابعة لداعش في غرب أفريقيا والصومال. فضلا عن الخلايا النائمة في دول تصدير المقاتلين الإرهابيين مثل تونس خاصة بعد عودته مجددا إلى منطقة الساحل والصحراء بشكل علني، من خلال مجموعة أبو الوليد الصحراوي والتي تحاول استعادة نشاط داعش من جديد داخل الأراضي التونسية.
واستمرت المخاطر الناتجة عن تنظيم القاعدة في كل من اليمن والصومال وليبيا، على الرغم من تراجع عملياتها في العام 2018 مقارنة بعامي 2016 و2017. وفي هذا السياق، من المتوقع أن تستمر عمليات تنظيم داعش في الإقليم، مع تفاوت حدتها من دولة لأخرى، بحيث تتراجع في مصر وتونس والمغرب، وتزيد في سوريا والعراق وليبيا. كما قد تتزايد التنظيمات المرتبطة بالقاعدة، في سوريا وليبيا والصومال، بل هناك من يذهب إلى تبلور "طبعة جديدة" للقاعدة.
8- بقاء التنافس بين التحالفات الإقليمية
إذ تشهد منطقة الشرق الأوسط، منذ عام 2011، تحولا في نمط التحالفات السائدة فيها، ليس فقط من حيث الأطراف المشاركة في التحالفات، وإنما من حيث نوعها أيضا، حيث أصبحت دول المنطقة أكثر براجماتية في إدارة علاقاتها الخارجية، بما في ذلك علاقاتها مع الدول التي تمثل مصدر تهديد لها، حيث تتبنى استراتيجيات تقوم على فكرة "التوافق" والتحالف "المرن" المرتبط بقضايا محددة في ظل حالة السيولة الإقليمية وتعثر الوصول إلى التطابق الكامل في المصالح.
وتجدر الإشارة إلى عدم حدوث تغيرات في طبيعة التحالفات الرئيسية بالإقليم. فقداستمر خلال العام 2018 التحالف بين دول التحالف الرباعي (الذي يضم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين) لمواجهة دعم قطر للجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية. في نفس الوقت نشأ تحالف بين قطر وتركيا منذ بدء الحراك الثوري العربي حتى الآن، لاسيما في ظل دعم أنقرة والدوحة لتيارات الإسلام السياسي. وتعزز التحالف بين المجموعة الأخيرة بعد المقاطعة العربية للدوحة في 5 يونيو 2017، على نحو ما عكسه إقامة قاعدة عسكرية تركية في قطر، وتزويد أنقرة الدوحة بكافة احتياجاتها من المواد الغذائية، في مقابل الدعم القطري لتركيا لاستعادة قيمة عملتها الوطنية بعد توقيع اتفاق لتبادل العملات بين بنكي قطر وتركيا المركزيين بقيمة 3 مليارات دولار في أغسطس 2018.
كما حاولت تركيا استغلال مقتل الصحفي جمال خاشقجي لممارسة ضغوط متزايدة على السعودية، والإضرار بالعلاقات السعودية، وتجاوز الأزمة القطرية، في حين استمر التحالف الشيعي الذي يضم إيران ونظام الأسد والميلشيات الشيعية في سوريا وحزب الله في لبنان والميلشيات الشيعية في العراق وميلشيا الحوثيين في اليمن.
وبرز التنافس أيضا بين أطراف التحالفات في منطقة شرق المتوسط، باستمرار التحالف المصري اليوناني القبرصي، في مواجهة تركيا، حيث تبرز اكتشافات الطاقة العملاقة وتدشين خطوط أنابيب إقليمية جديدة لنقل الغاز، وخلافات وتوافقات بشأن ترسيم الحدود البحرية وتشكل محاور صدام إقليمية، وهي ما تجسدها مؤشرات دالة مثل إجراء المناورات العسكرية على نحو ما تقوم به روسيا ومصر (مناورات النجم الساطع) وتركيا وقبرص واليونان وإسرائيل وعقد صفقات تسليح نوعية، وتدشين القواعد العسكرية لقوى دولية وإقليمية لدرجة أن تركيا متواجدة بقواتها في أربع دول عربية.
وقد برز خلال عامي 2017 و2018 إشكاليات إدارة العلاقة بين الحلفاء، وليس مجرد إدارة العلاقة بين الخصوم،أو ظاهرة الحلفاء الخصوم (الأعدقاء) inter discord alliance، (Frenemies) إذ إن تنامي الخلافات الداخلية في الأحلاف قد يدفع بعض أطرافها نحو البحث عن تحالفات جديدة أو ائتلافات بديلة مكملة لتلك القائمة. وتقدم السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وما خلقته من فراغات واضطرابات استراتيجية نموذجا واضحا. ومؤخرا، أعلنت الولايات المتحدة عن مشروع لتحقيق الأمن الإقليمي تحت اسم "التحالف الاستراتيجي الشرق أوسطي" MESA،والذي طرحه وزير الخارجية بومبيو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلث الأخير من سبتمبر، الذي سيتكون من دول الخليج الست ومصر والأردن،وسوف يُطرح في يناير 2019 ليكون موجها لمحاربة الإرهاب ومواجهة الخطر الإيراني.
وتمثل الأزمة القطرية مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر نموذجا إضافيا لتحول أحد الحلفاء إلى مصدر تهديد والدخول في شبكة علاقات غير متسقة مع فاعلين من الدول وغير الدول بشكل يمثل تهديدا لمصالح الحلفاء الأساسيين، مقابل سعي الأطراف المقاطعة إلى ضبط السلوك القطري وتقليل التأثيرات السلبية للسياسات القطرية إقليميا مع اتهامها بتقويض الأمن الخليجي والعربي. كذلك الحال بالنسبة للعلاقة بين موسكو وطهران قد تكون مرشحة للخلاف لاسيما بعد إطلاق تصريحات رسمية روسية تعبر عن توجه موسكو لانسحاب القوات المدعومة إيرانيا من سوريا.
ومن المرجح أن يشهد عام 2019 استمرار مساعي واشنطن للبحث عن تحالفات عسكرية بالإقليم كخيار بديل للانخراط العسكري المباشر. كما أن طهران سوف توظف وكلاءها وحلفاءها داخل بؤر الصراعات لعرقلة أية نوافذ للتسوية لاسيما في ظل تطبيق العقوبات الأمريكية عليها. في الوقت نفسه، تستمر العقبات التي تحول دون تسوية الأزمة القطرية، وبقاء القضايا الخلافية بين دول المقاطعة العربية (وبصفة خاصة مصر والإمارات) وتركيا.
9- تزايد الانخراط الروسي في التفاعلات الشرق أوسطية
تزداد فرص هذا الاتجاه في ظل توجه أمريكي للانسحاب من أزمات المنطقة وسحب قواتها من سوريا بعد قرار ترامب في 19 ديسمبر 2018 (على الرغم من تراجع ترامب عن هذا القرار إلا أنه قد يكون تراجعا مؤقتا)، وتركيزها على البرنامج النووي الإيراني، وضعف اهتمام دول الاتحاد الأوروبي بأزمات المنطقة، باستثناء ما يتعلق بتهديدات الإرهاب والهجرة غير النظامية وتدفقات اللاجئين (على نحو ما عكسه رعاية إيطاليا لمؤتمر باليرمو لتسوية الأزمة الليبية، ودور بريطانيا في تسوية الأزمة اليمنية)، والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وتركيز فرنسا على أوضاعها الداخلية بعد اشتعال الاحتجاجات، والانشغال بتغير قيادة الحزب الحاكم في ألمانيا بعد المستشارة أنجيلا ميركل، والبحث عن مظلة أمنية مستقلة للاتحاد الأوروبي.
لذا، تصاعدت الكثافة في علاقات روسيا مع الدول الرئيسية بالشرق الأوسط، خلال الفترة (2015-2018)، وبصفة خاصة مع مصر وتركيا وإيران وإسرائيل والسعودية، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وخاصة الأخيرة. أضف إلى ذلك سعي روسيا للقيام بأدوار في أزمتي اليمن وليبيا. ومن المرجح أن يتواصل الانخراط الروسي في الإقليم باستغلال الفجوات القائمة بين واشنطن وعدد من دول الإقليم، فضلا عن مواجهة العقوبات المفروضة عليها من بعض الدول الغربية.
10-بدء مسارات التطبيع العلني مع إسرائيل
دشن هذه العملية زيارةبنيامين نتنياهو إلى سلطنة عُمان في أكتوبر الماضي، حيث يتم بدء تطبيع العلاقات مع دولة محايدة بالإقليم، تنأى بنفسها عن الاصطفافات الإقليمية والتحالفات الدولية، مما جعلها على الدوام مؤهلة لأداء المسهل أو الوسيط في النزاعات وتقريب وجهات النظر بين الدول، وهو ما ينطبق على عُمان بما لا يعطي ذرائع لدول عربية أخرى بعدم وجود أطر معلنة أو علاقات رسمية مع تل أبيب. وثمة تصريحات سابقة لرئيس الوزراء الإسرائيلي أمام البرلمان خلال أكتوبر 2018 أشار فيها إلى "إنه بسبب مخاوف من التهديد النووي الإيراني، باتت إسرائيل ودول عربية في تقارب أكثر من أي وقت مضى". كما قال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، في تصريحات لمحطة "غلوبو" التلفزيونية البرازيلية في الأول من يناير 2019، خلال زيارة ريودي جانيرو "إن دولا عربية تعتبر إسرائيل لا غنى عنها في محاربة إيران وتنظيم الدولة الإسلامية"، مضيفا "أن ذلك الموقف أحدث ثورة في العلاقات مع العالم العربي".
وعلى الجانب العربي، قال وزير الخارجية السعودي السابق عادل الجبير في مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية البحريني خالد آل خليفة على خلفية المشاركة في حوار المنامة "إن عملية السلام لابد أن تكون المفتاح للعلاقات مع إسرائيل"، مضيفا "أن مفتاح التطبيع مع إسرائيل هو المضي قدما في عملية السلام التي تستند على المبادرة العربية التي أقرت في بيروت عام 2002، والتي تطالب إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 عاصمتها القدس". فهناك دول عربية وخليجية ترى أنه يمكن التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل، في حال التقدم بحلول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويؤدي ذلك إلى إزالة الحاجز المعنوي لدى دول الخليج في التعامل مع إسرائيلعبر تعزيز العلاقات الإسرائيلية مع عُمان كمحطة أولى من خلال إبراز الخبرات الإسرائيلية في مجالات الأمن والتكنولوجيا والاقتصاد، وهي الأسس التي تدعو اليها إسرائيل كمرتكزات للتحرك الإقليمي في الشرق الأوسط وليس فقط على المستوى الثنائي. ولعل التعاون الرياضي الذي تم بين إسرائيل ودول خليجية مثل قطر والإمارات في الثلث الأخير من عام 2018 يعبر عن ذلك.
***
خلاصة القول إن عام 2019 سيمثل امتدادا لمجموعة من التحولات التي بدأت إرهاصاتها التي شهدها إقليم الشرق الأوسط خلال الشهور الأخيرة من عام 2018، لاسيما استمرار حالة الاضطراب الداخلي في عدد من دول الإقليم، وتغير تركيبة الحكومات الائتلافية نتيجة انتخابات مبكرة أو خروج أحزاب من التشكيلات القائمة، وتعثر استيعاب الميلشيات المسلحة في هياكل النظم السياسية على المستويين السياسي والأمني، مع استمرار نمط التحالفات "المرنة" بين القوى الرئيسية بالإقليم، وسعي بعض الدول العربية الرئيسية لموازنة النفوذ التركي والإيراني، خاصة في الساحة السورية، وهو ما يتوازى مع محاولة موسكو الانخراط في تفاعلات الإقليم، بعد الانسحاب التدريجي لواشنطن من مناطق الصراعات في سوريا وأفغانستان وضبابية دورها في اليمن وضعف اهتمامها بليبيا، في الوقت الذي تتزايد فيه مظاهر التطبيع في العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل.