إعداد: دينا رأفت إبراهيم موسى – باحثة فى العلاقات الدولية
مقدمة:
أن التحالف الأمريكى مع تركيا يمر اليوم بأسوء مرحلة فى تاريخ التحالف بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية. فلم تشهد العلاقات الأمرريكية التركية هذا القدر من التوتر منذ خمسة عشر عاماً، عندما رفض البرلمان التركى تحويل الأراضى و القواعد التركية إلى نقاط للغزو الأمريكى للعراق عام 2003. فتركيا التى كانت منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية حليف دائم للولايات المتحدة الأمريكية و حلف الناتو تعيش الان أسوء أوقتها فى علاقتها مع الغرب. و يرجع هذا التوتر إلى سلسة من القضايا الخلافية بين البلدين على مدار العامين السابقين.
و الحقيقة ان التحالف الأمريكى التركى يتعرض للتأكل منذ عام 2003 و الغزو الأمريكى للعراق، حيث بدأت تركيا تغير نظرتها لسياستها الخارجية، ثم تعمقت الخلافات أكثر منذ عام 2011 حيث بدأت تركيا ترغيب فى إستعادة مكانتها الأقليمية و كذلك استعادة الهوية التركية القائمة على زعامة الجزء الأكبر من العالم الأسلامى على غرار ما كانت عليه الأمبراطورية العثمانية. و هو ما يتعارض مع المصالح الحيوية الأمريكية فى المنطقة، و الأهم من ذلك أنه يتعارض مع رؤية الولايات المتحدة لتركيا. حيث تنظر الولايات المتحدة لتركيا على أنها أحد أدوتها، التى تقوم بدور محدد و هو الشرطى الأمامى للولايات المتحدة و حلف الناتو، إذ أن موقع تركيا الاستراتيجى يلعب دور هام فى حماية الضفة الشرقية للقارة من روسيا.
و من ثم أن الخلافات القائمة بين الولايات المتحدة مع تركيا نابعة من عدم تقبل الولايات المتحدة بأن يكون لتركيا مصالح خاصة تتعارض مع المصالح الأمريكية و خارج أطار حلف الناتو، و أن يكون لها عدو أخر غير روسيا. و من هنا جاء الخلاف مع تركيا، إلا ان حدة هذه الخلافات زادت مع وصول ترامب إلى السلطة.
و تأسيساً على ما تقدم تأتى العديد من التساؤلات التى تشكل مجتمعة مشكلة البحث، و يأتى فى مقدمة هذه التساؤلات تساؤل رئيسى و هو، ما هى توجهات السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد ترامب؟. و تندرج تحت هذا التساؤل الرئيسى عدة تساؤلات فرعية لعل من أبرزها: ما هى الأهمية الجيو استراتيجية لتركيا فى المصالح الأمريكية”؟. ما هى أهم المحطات التاريخية التى مرت بها العلاقات الأمريكية التركية؟. كيف تعارضت الأهداف التركية مع المصالح الأمريكية؟. ما هى أبرز القضايا الخلافية فى العلاقات الأمريكية التركية؟. ما هى الأدوات التى أعتمدت عليها الولايات المتحدة فى التعامل مع الملف التركى؟. هل هناك تجاه نحو الصعود أو الهبوط فى العلاقات الأمريكية التركية؟. و بناءً عليه يسعى هذا البحث إلى الإجابة على هذه التساؤلات.
منهج البحث:
فى سبيل الاجابة على هذه التساؤلات و دراسة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا، يتعين علينا استخدام المنهج الاستقرائى الذى ينطلق من استقراء الواقع، بمعنى الوقوف عند الملاحظة المجردة لوصف الواقع المستهدف بالحالة التى هو عليها و ذلك فى سبيل التعرف على حقيقة هذا الواقع.
تحديد البحث
تحديد البحث من خلال النطاق الموضوعى و الزمنى و المكانى
- المجال الموضوعى
ينتمى هذا البحث إلى حقل العلاقات الدولية.
- المجال الزمنى
فى هذا البحث سنعرض للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا فى عهد الرئيس الأمريكى ترامب، إى فى الفترة من 2017 و حتى الاّن.
- المجال المكانى
المجال المكانى لهذا البحث يتمثل فى تركيا بالأضافة إلى المناطق التوتر الأمريكى التركى و التى تشمل المنطقة العربية و لاسيما سوريا.
المطلب الأول : السياق التاريخى للعلاقات الأمريكية التركية
تعود جذور العلاقات الأمريكية التركية إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر(1). إلا أن البداية الحقيقية للتحالف الأمريكى التركى بدأ فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث ادركت الولايات المتحدة الأمريكية أهمية موقع تركيا فى سياستها العالمية لاحتواء الاتحاد السوفيتى(2).
و طوال فترة الحرب الباردة لم يطرأ أى تغير جوهرى على علاقة التحالف بين أنقرة و واشنطن سوى بعض الاستثناءات مثل: أزمة الصواريخ الكوبية 1962، و التدخل التركى فى قبرص عام 1974 و الذى ترتب عليه قطع الولايات المتحدة لمساعدتها العسكرية لأنقرة حتى عام 1981. إلا أن هذه الأحاث لم تبعد السياسة الخارجية التركية كثيراً عن التوجهات الأمريكية(3).
و مع نهاية الحرب الباردة، و التغيرات التى طرأت على النسق الدولى و التحول نحو الأحادية القطبية كان هناك توقع بأن هذه العلاقة الاستراتيجية ستصبح أقل أهمية، و لكن فى الواقع هذه العلاقة اكتسبت أهمية أكبر فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بل و شهدت التسعينيات فترة ذهبية للعلاقات الأمريكية التركية كما توجها الطرفان إلى إعلان الشراكة الاستراتيجية بينهما فى عام 1995(4).
و قد ظلت علاقة التحالف بين أنقرة و واشنطن مستقرة، ففى عام 2009 اختار الرئيس الأمريكى باراك أوباما تركيا كوجهة لزيارته الأولى كرئيس، حيث فضل مخاطبة العالم الاسلامى من تحت قبة البرلمان التركى(5). و لكن مع نهاية الفترة الرئاسية الثانية لأوباما دخل هذا التحالف فى منعطف جديد. حيث بدأت جذور الخلافات بين تركيا و الولايات المتحدة فى السنة الاخيرة من الفترة الرئاسية الثانية لأوباما، عندما اتخذت الولايات المتحدة قرار بتقديم الدعم لوحدات الحماية الشعبية الكردية السورية Syrian-kurdish people’s protections units (YPG) حيث أن هذه الميليشيات لها علاقة بحزب العمال الكردستانى the Kurdistan worker’s party (PKK) الذى تصنفه كل من تركيا و الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد الأوروبى على أنه جماعة إرهابية(6).
و مع وصول ترامب إلى الحكم علقت الحكومة التركية اّمال على تحسن العلاقات مع واشنطن، إلا أن ترامب سار على نفس نهج أوباما. حيث استمرت الولايات المتحدة الأمريكية فى تقديم الدعم و التسليح للوحدات الكردية فى سوريا. بل و فى 15 ديسمبر 2017 صدرت استراتيجية ترامب للأمن القومى لكنها –على عكس الاسترايجيات التى صدرت فى عهد رؤساء سابقين- لم تتطرق أبداً غلى تركيا، و لم يتم ذكرها فى نص الوثيقة. و هو ما يعد مؤشر سلبى و لاسيما فى ظل التدهور غير المسبوق فى العلاقت بين البلدين(7).
المطلب الثانى : تركيا فى المصالح و الأهداف الأمريكية
أن السياسة الخارجية لأى دولة لا تنبع من فراغ و إنما هى برنامج عمل الدولة فى المجال الخارجى الذى يتضمن الأهداف الخارجية التى تسعى الدولة إلى تحقيقها و التى تعكس مصالحها القومية فضلاً عن الوسائل اللازمة لتحقيق تلك الأهداف(8).
و بالتطبيق على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا –منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الاّن- نجد أن المصالح الأمريكية كانت هى المحدد الرئيسى لطبيعة هذه العلاقة. و تأسيساً على ما تقدم سنعرض فى هذا المطلب للمصالح و الأهداف الأمريكية فى تركيا.
1- المصالح الأمريكية فى تركيا
بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة الأمريكية توجه انظارها نحو تركيا حيث أدركت مدى أهميتها فى تحقيق مصالحها. و هذه الأهمية تعود بالأساس إلى عاملين هما :
- – أهمية الموقع الاستراتيجى التركى
تتمتع تركيا بموقع استراتيجى فريد بين طرفى القارة الأوروبية و الأسيوية، حيث تطل على رقعة استراتيجية هامة تتمثل فى أوروبا و البحر الابيض المتوسط من جهة، و منطقة القوقاز من جهة أخرى. كما تطل على البحر الأسود و تتحكم فى مضيقى البسفور و الدردنيل. و هذا الموقع الاستراتيجى جعلها تقع فى منطقة متوترة تتقاطع فيها مصالح الدول الكبرى(9).
- – سياسة الاحتواء الأمريكية لروسيا
أن التوجهات الروسية فى المنطقة و خاصة منطقة القوقاز و اسيا الوسطى تبرر حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحالف مع تركيا. و لذلك تلعب تركيا دور هام فى خدمة المصالح الامريكة المتمثلة فى مواجهة روسيا(10).
2– الأهداف الأمريكية تجاه تركيا
يتضح مما سبق أهمية مكانة تركيا فى خدمة المصالح الأمريكية، و هذه المصالح تم ترجمتها فى صورة هدف رئيسى يتمثل فى إنشاء خط دفاع متقدم فى مواجهة روسيا و الحد من سعيها إلى نشر نفوذها فى منطقة القوقاز و اسيا الوسطى .
و الجدير بالذكر إن هذا الدور خصصته الولايات المتحدة لتركيا منذ انضمامها إلى حلف الناتو عام 1952 و هو حماية الضفة الجنوبية الشرقية للقارة من الاتحاد السوفيتى سابقاً(11).
3– تهديد تركيا للمصالح الأمريكية
مع وصول حزب العدالة و التنمية إلى السلطة فى تركيا، بدأت تركيا تعيد التفكير فى مكانتها إقليمياً و دولياً ولاسيما منذ عام 2011 الذى شهد نقلة نوعية للسياسة الخارجية التركية من المحافظة و الانكفاء و الحياد إلى المبادرة و النشاط و الفاعلية خصوصاً تجاه المنطقة العربية و الرغبة فى لعب دور اقليمى و عالمى.و قد ظهر هذا بصورة واضحة فى رفض الأتراك السماح للقوات الأمريكية بالعبور عبر تركيا فى الغزو الأمريكى للعراق عام 2003. و من هنا أدركت الولايات المتحدة أن تركيا بدأت تتبع سياسة خارجية جديدة.
الأمر الذى مثل تهديد خطير للمصالح الأمريكية، إذ أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية تقوم على مصالح ثابتة منذ نهاية الحرب الحرب العالمية الثانية و حتى الان تتمثل فى دعم و حماية أمن إسرائيل، و منع ظهور قوة أقليمية فى المنطقة، و ضمان وصول النفط من المنطقة إلى الولايات المتحدة و حلفاءها باسعار معقولة، و الحرب على الإرهاب، و الحفاظ على التحالف مع الدول الصديقة(12).
و بتالى مثلت رغبة تركيا فى لعب دور أقليمى و عالمى تهديد للمصالح الأمريكية المتمثلة فى عدم ظهور أى قوة أقليمية فى المنطقة. و يعد هذا السبب الرئيسى فى التحول فى علاقة واشنطن مع أنقرة من التحالف إلى التوتر. حيث إن الولايات المتحدة لا تتقبل فكرة أن يكون لتركيا مصالح خاصة خارج نطاق حلف الناتو، و خارج نطاق الاستراتيجية الأمريكية العالمية ، و أن يكون لها عدو أخر غير روسيا.
إذاً يتضح مما سبق أن حماية المصالح القومية للولايات المتحدة الأمريكية هى الاساس الأول و الاخير لنشأة و استمرار هذه العلاقة(12).
المطلب الثالث : القضايا الخلافية بين واشنطن و أنقرة
أن التحالف الاستراتيجى الأمريكى مع تركيا يشهد اليوم مرحلة جديدة قد تسفر عن تشكل صورة جديدة للعلاقة بين البلدين نتيجة لسلسة من الخلافات و الأزمات بينهما خلال العامين السابقين. و فيما يلى سنعرض لأبرز القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة و تركيا، و للأدوات السياسة الخارجية التى استخدمتها الولايات المتحدة تجاه تركيا.
أولاً : القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة و أنقرة
تعود جذور الخلافات بين البلدين إلى عام 2016 عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث وجهت تركيا الاتهامات إلى الولايات المتحدة بأنها وراء هذا الانقلاب. إلا أن حدة التوترات ظهرت جلية بعد تولى الرئيس دونالد ترامب و اتخاذه خطوة غير مسبوقة فى عام 2017 تجاهل بها احتجاجات الجانب التركى. و هى دعم و تسليح الميليشيات الكردية فى سورية. ثم أعقب ذلك مجموعة من الخلافات بين البلدين انتهت بشن الولايات المتحدة حرب اقتصادية على تركيا كرد فعل على عدم الافراج عن القس الأمريكى “اندرو برونسون”. و فيما يلى سنعرض لأبرز القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة و تركيا(13).
1- القضية السورية
تمثل الأزمة السورية أحد مجالات التغير الملموسة فى التحالف الأمريكى التركى نظراً لأهمية تلك الأزمة بالنسبة لواشنطن، إذ أنها القضية الرئيسية فى ملف العلاقات الأمريكية-الروسية، و لتأثيرها على المنطقة ككل(14).
و مع وضع الإدارة الأمريكية قضية الحرب على الإرهاب فى مقدمة أولويتها، رأت أن من الأفضل تأجيل معالجة المشاكل فى العلاقة مع تركيا و التركيز بدلاً من ذلك على تدمير التنظيم الإرهابى داعش فى سورية بالتعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية فى سوريا (YPG) (15). تلك الميليشيات التى لها علاقة وثيقة بحزب العمال الكردستانى الذى تصنفه تركيا إرهابياً. مما جعل تركيا تشعر بأن حليفها الاستراتيجى لا يأخذ تحديتها الأمنية على محمل الجد، حيث أن دعم الولايات المتحدة لهذا الفصيل فى القتال ضد داعش من شأنه تهديد الأمن القومى التركى، إذ أن هذا قد يساعد على قيام منطقة كردية مستقلة على الحدود التركية(16).
فى حين جاء تبرير الإدارة الأمريكية لهذا الاجراء بأن داعش تتقدم بسرعة كبيرة عبر سوريا و العراق، فضلاً عن اثبات وحدات حماية الشعب فاعليتها فى مواجهة داعش(17).
2- قضية فتح الله جولن
تعد قضية فتح الله غولن ايضاً من أقوى اسباب التوتر الأمريكى مع تركيا. فعلى الرغم من تصنيف تركيا ل “الكيان الموازى” الذى يتزعمه فتح الله جولن -المقيم فى الولايات المتحدة الأمريكية- كمنظة إرهابية، و على الرغم من تقديم تركيا لسلسلة من الأدلة على تورطه فى المحاولة الإنقلابية الفاشلة فى صيف 2016. إلا أن الولايات المتحدة ترفض تسليمه إلى السلطات التركية حيث ترى أن الأدلة المقدمة فى هذه المسألة غير كافية لاتخاذ إلى إجراء بحق جولن(18).
الأمر الذى يزيد من شكوك تركيا حول أن الولايات المتحدة هى من وراء هذا الانقلاب. حيث قال وزير العمل التركى “سليمان سويوول”(19):
“بصراحة أن الولايات المتحدة تقف وراء هذه المحاولة الانقلابية”
3- القضية الفلسطينية
أدى إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة إلى إسرائيل فى ديسمبر 2017 إلى مواجهة سياسية و دبلوماسية بين الولايات المتحدة و تركيا، التى تزعمت حراكاً إسلامياً فى مواجهة قرار ترامب(20). حيث أن هذا يخدم سياساها فى الترويج لفكرة أن تركيا هى حامى المسلمين من الفلبين و الصومال إلى مينمار و البوسنة(21).
4- قضية القس الأمريكى برونسون
قامت تركيا باحتجاز القس الأمريكى “اندرو برونسون” –الذى خدم فى مدينة ازمير لمدة 23 عاماً- بتهمة مساعدة الجماعة التى تحملها أنقرة المسئولية عن محاولة الانقلاب على اردوغان عام 2016. و ترغب تركيا من وراء ذلك تبادل القس الأمريكى مع فتح الله جولن. و تعد هذه الأزمة هى الأسوء فى تاريخ التحالف بين البلدين.
و لجأت الإدارة الأمريكية منذ بداية الأزمة إلى استخدام لهجة التهديد. ثم حاول فريق ترامب التوصل إلى اتفاق مع أنقرة يتضمن الافراج إسرائيل عن امرأة تركية معتقلة لصلاتها بحماس مقابل افراج تركيا عن برونسون، و تم بالفعل إطلاق سراحها و عادت إلى تركيا خلال 15 يوم، و لكن على الرغم من ذلك لم تطلق تركيا سراح القس الأمريكى(22).
و نتيجة لتشدد الموقف التركى قامت الولايات المتحدة بمضاعفة الرسوم الجمركية على الالومنيوم و الصلب التركيين، مما أدى إلى هبوط فى قيمة العملة التركية إلى ما يقارب 17% بعد أيام فقط من فرض واشنطن عقوبات على الواردات التركية، و قد ترتب على ذلك زعزعة الاقتصاد التركى(23).
كما تجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أن قضية القس الأمريكى ليست السبب الرئيسى وراء الإجراءات الأمريكية الأخيرة المتشددة خاصة إن القرار اتى بعد ما يقترب عامين من اعتقال القس الأمريكى، و فى ظل تحسن واضح فى القضية أدى إلى نقل برونسون من السجن إلى الإقامة الجبرية فى منزله. و هذا يوضح أن هذه الإجراءات كانت نتيجة للسلسة الخلافات السابقة مع تركيا على مدار العامين السابقين(24).
5- صفقة صورايخ S-400
تفاقمت الخلافات الأمريكية مع تركيا بعد توجه الأخيرة نحو موسكو عندما وقعت تركيا صفقة فى سبتمبر 2017 لشراء نظام صواريخ أرض-جو الروسى (S-400). حيث أن هذا يمثل تهديد كبير للولايات المتحدة الأمريكية و حلف الناتو و لاسيما فى ظل التواجد الروسى المتنامى(25).
هذا التحرك التركى تجاه روسيا أغضب الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن تركيا كانت لاتزال بصدد شراء مقاتلات (f-35) الأمريكية و منذ ذلك الحين يتحرك الكونجرس لمنع تسليم الصفقة مالم تلغ تركيا الصفقة الروسية(26).
ثانياً : أدوات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا
تنوعت أدوات السياسة الخارجية الأمريكية فى التعامل مع حليفتها الاستراتيجية تركيا ما بين الاليات الناعمة المتمثلة فى الحوار و الدبلوماسية، و الأدوات الصلبة المتمثلة فى العقوبات الاقتصادية.
فقد انتهجت الولايات فى البداية نهج الحوار و الدبلوماسية لحتواء الغضب التركى خاصة فى مسألة دعم وحدات حماية الشعب الكردية فى سورية.
و لكن فى ظل سلسلة الخلافات العميقة بين الدولتين من رفض التركى لدعم للعقوبات الأمريكية على إيران. و كذلك تبنى تركيا لموقف معارض من صفقة القرن، ثم الخلاف حول مسألة “فتح الله جولن”ن و الخلاف حول صفقة صواريخ (S-400)، ثم جاءت قضية القس الأمريكى الذى عمقت التوتر بين البلدين و زادت من حدة الخلاف مع تركيا.
و من ثم اتجهت الولايات المتحدة إلى الميل إلى التهديد و التحدى أكثر من الدبلوماسية، و قامت باستخدام واسع النطاق للأداه الاقتصادية متمثلة فى فرض عقوبات اقتصادية على تركيا فى صورة مضاعفة الرسوم الجمركية على الألومنيوم و الصلب التركيين، مما أدى إلى فقدان الليرة التركية إلى ما يقارب 20% من قيمتها أمام الدولار الأمريكى.
و من المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة فى فرض العقوبات على تركيا. و هذا يتضح من التهديدات الأمريكية بإضافة عقوبات اقتصادية من شأنها خنق تركيا اقتصادياً. و هو ما قد يؤدى إلى إجبار الرئيس أوردغان على التراجع و الاستجابة لضغوط ترامب بإطلاق سراح القس الأمريكى(27).
المطلب الرابع : افاق التحالف الأمريكى مع تركيا(28)
أن التحالف الأمريكى مع تركيا يقوم على أسس سياسية و اقتصادية و أمنية معقدة بنيت على عشرات السنين من التعاون مما يجعل النكوص عنها باهظ الثمن لكلا الطرفين، و لكن رغم ذلك لا تلوح فى الأفق القريب بوادر أى تحسن قد يطرأ على علاقات أمريكا مع حليفتها تركيا. و مما يدلل على ذلك:
- التغير فى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه تركيا حيث تبحث عن شركاء بديلين لتركيا فى المنطقة، فقد أصبحت تركيا أحد وكلاء واشنطن وليس وكيلها الوحيد.
- نظرة تركيا لنفسها كقوة أقليمية بحد ذاتها بصرف النظر عن دعم الولايات المتحدة لها، بل وشرعت تبحث عن تنويع دوائر الانتماء، و كذلك تنوع الحلفاء الذى ظهر فى التقارب التركى مع كل من روسيا و قطر و إيران.
- رفض الولايات المتحدة استيعاب وجهة النظر التركيا و رغبتها فى لعب دور أقليمى.
- اتباع الولايات المتحدة سياسة متشددة تجاه تركيا، و ذلك راجع إلى :
- اتخاذ تركيا سياسات مستقلة تعتبرها الولايات المتحدة غير متوافقة مع مشاريعها فى المنطقة و بالأخص فى سوريا و العراق.
- محاسبة تركيا على تقاربها مع روسيا و تعاومنها العسكرى معها، و خاصة فى موضوع صفقة الصورايخ (S-400)، فضلاً عن المشاريع الاقتصادية العملاقة التى تتعاون فيها تركيا مع روسيا و الصين، و عدد من دول منظمة “شنغهاى”، و مجموعة دول أوراسيا.
و لكن من ناحية أخرى، و على الرغم من كل هذه التوترات ليس هناك ما يشير إلى أن الولايات المتحدة ساتنقلب تماماً على شريكتها الاستراتيجية، نظراً لعدة أسباب:
- مصلحة الولايات المتحدة فى الابقاء على علاقات جيدة مع تركيا لأهميتها الجيوسياسية للسياسة الأمنية الأمريكية فى مواجهة تحديات التحولات السياسية فى الشرق الأوسط.
- أن إيجاد بديل عن تركيا ليس بالأمر السهل، كما أن سلبيات قطع العلاقات مع تركيا ليست قليلة.
- من غير المعقول أن تضحى الولايات المتحدة بتحالفها التاريخى مع تركيا لمصلحة أكراد سوريا الذين لا يشكلون وزناً كبيراً فى ميزان المصالح الأمريكية.
- أن قطع العلاقات مع تركيا سيخلق فجوة من شأنها تمهيد الطريق لمزيد من التقارب الروسى التركى، و هو الأمر الذى لن تسمح به واشنطن.
فى ضوء ما تم استعراضه، يمكن قول أن التشدد سيظل يحكم السياسة الخارجية الأمريكية فى التعامل مع حليفتها تركيا فى الفترة المقبلة و ليس ثمة أى بوادر لحدوث انفراج فى العلاقات، فقد يحدث بعض الخطوات من باب نزع فتيل الأزمة و منع الصدام مع تركيا. أما التحسن العلاقات تماماً و عودتها إلى سابق عهدها كدولتين حليفتين كما هو الحال قبل عام 2011 يمكن أن يحدث فى حالة واحدة و هى تبدل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا و تفهما لرغبتها فى لعب دور أقليمى، أو تبدل السياسة الخارجية التركية بشكل جذرى و العودة إلى موقع التابع للولايات المتحدة، و هو أمر مستبعد تماماً.
بناءً على ما سبق يتضح أن هذه المرحلة تشهد ارهاصات علاقة جديدة آخذه فى التشكل تكون فيها تركيا أبعد عن الولايات المتحدة من دون قطيعة معها، و أقرب إلى روسيا من دون تحالف معها. فأن الولايات المتحدة لا يمكن لها التخلى عن تركيا على الأقل فى ظل المعطيات الراهنة، لأن البديل هو ترك فراغ يملؤه التمدد الروسى الإيرانى فى المنطقة.