مقدمة
لا يمكن فهم الثورات العربية ولا تقييمها، ولن تكتمل صورتها، إلا إذا نظرنا إليها من منظور زماني، ووضعناها في سياق التحولات الكبرى التاريخية، التي تنخرط فيها البلدان والمجتمعات، وتنتقل بها وعبرها، من مرحلة إلى أخرى، كمرحلة التحرر من الاستعمار المباشر. وذلك نظرا لخطورة التحديات التي تواجهها على المدى القصير والطويل. ومن أهمها، تبعات انخراط اقتصاديات بلدانها، منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، في منظومة الليبرالية المحدثة، أو "النيوليبرالية"، أو العولمة الجديدة. والمقصود بالليبرالية المحدثة، هي تلك المجموعة من النظريات الاقتصادية التي ترى أن اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي خير السبل لتحقيق المجتمع الحر، وزيادة رفاهية شعوب العالم المنفتحة اقتصادياتها على السوق العالمية. ويمثل البنك العالمي، وصندوق النقد الدولي، الأداتين التنفيذيتين لها. حيث فرض على بلدان العالم النامي/الأطراف، بما في ذلك البلدان العربية الإسلامية، في نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي، "برنامج الإصلاح الهيكلي"، الذي يرتكز على تقليص الإنفاق العمومي، والتفويت في المؤسسات العمومية لفائدة القطاع الخاص، وتدعيم الانفتاح. فأصبح لزاما على الدولة أن تراعي متطلبات جذب الاستثمار الأجنبي، وذلك من خلال تهيئة الأرضية "القانونية" والمادية اللازمة للانفتاح، وزيادة حجم التنازلات والإعفاءات الضريبية، والدعم المالي لأصحاب الثروة. وقد أزاحت الثورات العربية الغمة عن أوهام أربعة عقود ونيف من الانفتاح الأهوج على السوق الدولية، ومن إقحام الاقتصاديات المحلية في منافسة غير متكافئة مع اقتصاديات البلدان المتقدمة/المركز، هي أقرب لشريعة الغاب.
1/ "ميكانيزمات" نظم الاستبداد والفساد وارتباطها العضوي بالليبرالية المحدثة:
انبنت نظم الاستبداد والفساد، في بعدها الاقتصادي، على آلية تهدف الى النفوذ وتكديس الثروة. وحولت السياسة، باعتبارها ممارسة لتسيير شؤون المجتمع الداخلية والخارجية لمصلحة "الكل"، إلى ممارسة لمصلحة مجموعات معينة من "المحظوظين". فأصبحت وبفعل هيمنة الحزب الواحد أو العائلة الواحدة، والقائد الواحد/"الملهم"، وسيلة ضغط لخدمة تلك المجموعات، التي انتظمت في شكل شبكة عنكبوتية، تمتد من أعلى هرم السلطة الى أسفله. وتمكنت من اختراق كل البنى الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية، وبسطت نفوذها في إطار من التواطؤ بين السياسي والاقتصادي. فظهرت أقطاب نفوذ من طبيعة عائلية، متمثلة في العائلات الحاكمة، وعائلات ارتبطت بها، ومثلت لها حزاما يضمن الاختراق الإداري والاجتماعي، وجمع الثروة في اطار تلك الشبكة. يضاف إليها مستفيدين من سياسيين، وإعلاميين، ومثقفين، ونقابيين، تغوّلوا اقتصاديا بتواطئهم مع السلطة المركزية. وقد استطاعت كل هذه الأقطاب المتنفذة، أن تحدث تعددية غير مسؤولة في التسيير واتخاذ القرار، سواء في أعلى هرم السلطة، أو داخل المؤسسات العمومية، التي تحولت بفعل انحراف القرار السياسي، إلى أجهزة مستقلة لبلوغ الثروة والنفوذ. وامتد هذا التغول ليخترق كامل النسيج الاجتماعي والاقتصادي. لتجد معظم شرائح المجتمع نفسها مستهدفة بهذا التغول. فانتشرت نتيجة ذلك ظواهر مدمرة لثقة المجتمع بنفسه، وبالدولة، مثل التلاعب بالاختبارات، وعروض الشغل الوهمية، واحتكار المواقع الوظيفية، والهجرة غير الشرعية، والتهرب الجبائي، والتجارة الموازية، واستغلال النفوذ، والاختطافات المنظمة. في مثل هذا الإطار السياسي والاجتماعي، كان يدار الاقتصاد. فهيمن "المنطق" الانتهازي والغنائمي المتمحور حول "الأنا" أو المصلحة الذاتية، والمستهتر بكل ما هو عمومي. وقد وجد ذلك "المنطق" في طبيعة النظام الاقتصادي العالمي المهيمن، أي الليبرالية المحدثة، الأرضية المناسبة لكي يسود. وبرز ذلك خاصة مع فرض "برنامج الإصلاح الهيكلي" من قبل صندوق النقد الدولي. فاستفادت العائلات الحاكمة، وأجنحتها المخترقة لكل مفاصل الدولة والمجتمع، من اندفاع الدولة نحو الخوصصة، وتقديم الهياكل التحتية المغرية، والتنازلات، والإعفاءات الضريبية المتزايدة، ومنح المساعدات المالية لأصحاب الثروة. حيث تحول الاستثمار الخارجي، وتهيئة البنية التحتية للانفتاح، وجلب الاستثمار، مجالا لتكديس الثروة لدى تلك العائلات. فأصبحت المشاريع توزع حسب الولاءات، والانتماءات، إلى أجزاء تلك الشبكة العنكبوتية. واستنزفت العديد من المؤسسات المالية، والصناديق الاجتماعية. وتم الشروع في التدمير الممنهج للمؤسسات العمومية بغية إفلاسها، وتفتيتها، ثم التفويت فيها لصالح القطاع الخاص المحلي والأجنبي، في إطار من السمسرة المافيوزية، التي تشرف عليها "دولة القمع"، وبتواطؤ مع بعض منظمات المجتمع المدني، ذات الصبغة العمالية والمهنية وحتى الحقوقية. وقدمت المجتمعات في هذا الإطار، ومازالت تقدم العديد من التضحيات/الآلام، من قمع، وإعدامات خارج القانون ، وتهميش، وبطالة، وطرد تعسفي بالآلاف في القطاعين العمومي والخاص، إلى الاستغلال المهين لليد العاملة الوطنية التي حرمت وبطريقة ممنهجة، وتحت مظلة حكم الاستبداد والفساد، من أدنى الضمانات الاجتماعية. سواء من رأس المال المحلي المتهرب من دفع الضرائب، والمكتفي بالمساهمة في تمويل "صناديق الفساد"، ودفع "خفارة" الاحتماء بالعائلات المتنفذة، أو رأس المال الأجنبي الذي ينشط خارج أي ضابط موضوعي في إطار من العلاقات الشخصية مع أفراد تلك العائلات، والذي يمتلك بدوره قدرة فائقة على التهرب الضريبي من بلد لآخر.
2/ نظم الاستبداد والفساد، "النيوليبرالية" والمشروع الصهيوني أو مثلث قهر الشعوب:
أمام الارتباط العضوي بين أنظمة الاستبداد والفساد والليبرالية المحدثة -مجسدة في دول المركز- صار اقتصاد البلدان العربية الاسلامية بين مطرقة تلك الأنظمة، وسندان ترتيبات "النيوليبرالية" أو العولمة الجديدة، التي تتخذ من الكيان الصهيوني نقطة ارتكاز لها بالمنطقة. وتدعم هذا التوجه بالانخراط الكامل لنظم الاستبداد والفساد في المشروع الامبريالي الصهيوني، والمتمثل في "الشرق الأوسط الكبير"، الذي تم التبشير به بالتزامن مع تطبيق برنامج الصلاح الهيكلي، وانهيار "الكتلة الاشتراكية" بزعامة الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينات القرن الماضي. و ارتبط ذلك الانخراط بزيادة قمع الشعوب العربية الاسلامية تحت مسمى "مكافحة الإرهاب"، لفرض دمج "الكيان الصهيوني" في النسيج الاقتصادي والثقافي لها. والقبول به كواقع قائم وشرعي لا يمكن التشكيك فيه، علاوة على مقاومته. في هذا الاطار لقيت الأنظمة البائدة بفعل ثورات الربيع العربي، والأنظمة التي مازالت تجثم على صدور شعوبها بالقوة، وبفعل تموقعها البنيوي في النظام الاقتصادي العالمي أو الليبرالية المحدثة، الدعم من دول المركز على المستوى المادي في شكل قروض ومعونات مشروطة، إلى جانب الدعم المعنوي والدعاية الوهمية المدفوعة الثمن من عرق وثروات الشعوب. فتخلت الدولة بذلك نهائيا عن مسؤوليتها المالية الملقاة على عاتقها، في علاقة بالتحولات والضغوطات الاجتماعية المختلفة، كالحد من البطالة المتعاظمة، وزيادة الإنفاق الصحي والتعليمي والغذائي والسكني وكل مقومات الحياة
الكريمة. وعوضت عن ذلك بماكينة إعلامية تطبيلية وتلميعية، تشتغل على المستويين المحلي والعالمي، وجهاز أمني مرتبط بالحزب الحاكم أو بالعائلة الحاكمة. لتخترق بذلك كل مفاصل المجتمع من خلال تجنيد أعداد مهولة من المخبرين الذين يشتغلون على المستويين الواقعي والافتراضي، أي على شبكات التواصل الاجتماعي، لمراقبة ومحاصرة كل نفس تحرري أو تذمري.
3/ الربيع العربي والليبرالية المحدثة: أي واقع للعلاقة؟
تمثل ثورات الشعوب العربية الإسلامية، في جانب كبير منها، نتيجة وتحد لليبرالية المحدثة/ العولمة الجديدة في نفس الوقت. فهي من ناحية ثورات على ذلك التحالف العضوي بين أنظمة الاستبداد والفساد والليبرالية المحدثة. وهي من ناحية أخرى ثورات من أجل إعادة الاعتبار للإنسان كجوهر للكون والمصدر الوحيد للشرعية، انطلاقا من مبادئها التاريخية والحضارية، وذلك من خلال سعيها الدؤوب والشاق إلى تجسيد وتكريس الشعارات التي ترفعها، من حرية، وكرامة، ومساواة، وعدالة. نافية بذلك الشرعيات المعنوية والأدائية الوهمية، التي تحتكر بها نظم الاستبداد والفساد السلطة. و تتجه الى التأسيس لديمقراطية المواطن/الانسان. متجاوزة بذلك ديمقراطية المواطن/الشيء، التي تتبناها الليبرالية المحدثة، والتي أدخلتها في أزمة في عقر دارها، أي في البلدان المتقدمة/ المركز. فهذا المركز أصبح يعاني من انعدام أو ضعف سياسات المبادرة الفعالة الداعمة للفئات المهمشة. حيث تواصلت تأثيرات السوق أو العولمة الجديدة الصادمة في العقود الأربعة الماضية ـ وتحديدا حالات تراجع الانتاجية التي استشرت في كل مجتمعاته، والتي أدت إلى انتقال التصنيع متدني الأجور الى البلدان النامية/الأطراف ومنها البلدان العربية الاسلاميةـ وذلك دون معارضة من أحد- لتنخفض معدلات التوظيف والأجور لدى الفئات متدنية الدخل. وقد كلفت هذه الانتكاسة الفئات المهمشة، والأقل حظا، ليس فقط خسارة بالدخل، وإنما ضياع فرصة ما يطلق عليه علماء الاقتصاد "الشمول الاقتصادي" أي فرصة الحصول على الوظائف والأعمال، والأجور التي تحقق الحياة الكريمة. ومن الأمثلة على ذلك بقاء المراهقين السود من سكان المدن بالولايات المتحدة الأمريكية مهمشين لفترة طويلة تمتد إلى الآن. وفي فرنسا، لم يكن الشمول الاقتصادي ليطال شرائح واسعة من المجتمع وخاصة المنحدرين من أصول شمال افريقية، وليست "حركة السترات الصفراء" إلا تعبيرا عن ذلك. ولم تبذل في كثير من أنحاء أوروبا، كمثال، وفي بلدان المركز عامة، محاولات لتحقيق شمول الناس عامة في الاقتصاد. فانتشر شعور بانعدام العدل يصدر عن احساس بغيابه في توزيع المنافع والامتيازات، ذلك أن أفراد الفئات العليا يستخدمون شبكة علاقاتهم للحفاظ على مواقعهم هناك. أو لكي يضمنوا أن يلحق بهم أطفالهم الى ذلك المستوى. فالحاجز أمام الحراك نحو الأعلى هو دائما نفسه: عوائق المنافسة التي يقيمها الأغنياء وذوو العلاقات الواسعة والشركات والتنظيمات المهنية والاتحادات والنقابات. ومن التمظهرات السياسية لهذه الأزمة أيضا، الاندفاع نحو إعادة تبني "القومية الاقتصادية" حيث أصبح شعار "أمريكا أولا" المحدد للسياسة الخارجية الأمريكية"، وتشبث حكومة المحافظين في بريطانيا بالخروج من الاتحاد الاوروبي أو ما يعبر عنه بال"بريكست" بلا حدود – رغم شراسة المعارضة البرلمانية لصيغة اتفاقية الخروج وتزايد المطالبة الشعبية بإعادة الاستفتاء عليه- . الى جانب تنامي نفوذ التيارات والأحزاب اليمينية المتطرفة في أغلب بلدان المركز، التي تعتقد أن مرد الازمة الحالية يرجع الى وجود المهاجرين الذين أصبحوا يعانون الآن أكثر من أي وقت آخر من كل أشكال التمييز، الذي أدى بدوره في الكثير من الحالات الى سفك دمائهم. وبالتلازم مع التأسيس لديمقراطية المواطن/الإنسان، تدفع ثورات الشعوب العربية الإسلامية، وبقوة، إلى استعادة السيادة على مواردها البشرية والطبيعية. وخلق أطر اقتصادية وطنية تهدف الى التقليص من التبعية بمختلف أشكالها المالية، والغذائية، والتكنولوجية، واستتباعاتها السياسية، والثقافية.
أمام هذه الاستحقاقات، ومن خلال رصد للعالم بمنظار الساعة، وتاريخ للمستقبل انطلاقا من الأمس واليوم، تقف الليبرالية المحدثة أو العولمة الجديدة على النقيض منها، أي من استحقاقات الشعوب الثائرة. فالرأسمالية، التي تستند إليها "النيوليبرالية"، كانت دائما نظاما عالميا يرتكز على التنميط ،دون مراعاة خصوصيات تطور الشعوب. وعملية تراكم رأس المال تتشكل عن طريق قانون القيمة، الذي يعمل بدوره في سوق مستثنى منها قوة العمل/العمال، ومقتصرة على السلع، و"الرساميل" للشركات، والمصانع، والمعامل الكبرى، التي تمتلكها البلدان المتقدمة/ المركز. والتي تستنزف مقدرات الشعوب العربية الإسلامية، وتستغل العاملات والعمال بأجور زهيدة الثمن، وبشروط غير إنسانية. وتدفع نظم الاستبداد والفساد للتعامل معهم بالقمع والاعتقال والتعذيب والقتل، وتستتبع هذا الدفع – أي البلدان المتقدمة/"المركز"- بالتجاهل. ولا شك في أن تجاهلا من هذا القبيل يكشف عن موقف خطير النتائج، ومشؤوم العواقب. فهو يعني أنه يتعين تأجيل تطبيق الديمقراطية، والاعتراف بحقوق الإنسان، وصيانة صحة العاملين، الى وقت آخر، مادام هذا التأجيل يخدم الاقتصاد العالمي "النيوليبرالي". لذلك نلحظ العمل الدؤوب الذي تقوم به الدول المتقدمة/المركز في إسناد نظم الاستبداد والفساد في المنطقة، رغم بشاعة ما تقوم به من انتهاكات وجرائم في حق شعوبها. ووكلت بعضها للقضاء على ثورات الشعوب العربية كالسعودية والإمارات -اللتان يلاحقهما الربيع العربي ويدق على أبوابهما- ومصر ما بعد الانقلاب. فحولوا المنطقة إلى مسرح للحروب، مثلما هو الحال في كل من ليبيا واليمن. ونشطت تبعا لذلك تجارة الأسلحة، وعقدت صفقاتها بمئات المليارات من الدولارات المستنزفة من ثروات الشعوب وأجيالها القادمة. كما تم القضاء على اول تجربة ديمقراطية في مصر، و الإيغال في إخماد ثورة الشعب السوري. ويتواصل تدعيم شبكات الاستبداد والفساد في البلدان التي نجحت شعوبها في ازاحة رؤوس منظومات الاستبداد والفساد، وعرقلة مساراتها في الانتقال الديمقراطي. وإغراقها في الديون، التي لا يمنح عدد كبير منها في شكل نقدي، وإنما في شكل واردات سلعية بأسعار مبالغ فيها لخنقها اقتصاديا من خلال المؤسسات المالية العالمية، مثل الحالة التونسية.
4/ الربيع العربي و"النيوليبرالية": أي أفق للعلاقة؟
الظاهر أن الليبرالية المحدثة/ العولمة الجديدة وفق التيار السائد، الذي يطرح توحيد العالم عن طريق السوق، ودون تقديم تنازلات للاستقلالية الوطنية، حملت وستحمل معها انفجارات عنيفة، وستظل الدول العربية الاسلامية منطقة ثورات شعبية و تندرج كل من الحالتين السودانية والجزائرية ضمن هذا الإطار. فالتناقض حاد جدا بين خيار العولمة دون تنازلات ، وبين إرادة التجسيد الفعلي للاستقلالية الوطنية. وهناك معسكران: الفئة المسيطرة/ السلط الحاكمة المستبدة والفاسدة، واحزمتها، التي تقول نعم للعولمة الجديدة، لأنها صاحبة مصلحة حقيقية فيها. وفي المقابل،هناك الفئات الشعبية، التي هي ضحايا هذه العولمة، والثائرة لسيادتها واستقلالها الفعلي. وأضحى الهدف المنشود الآن، للعولمة الجديدة أو الليبرالية المحدثة، الحد أكثر ما يمكن من اشراف السلطة الوطنية في البلدان النامية/الاطراف على الاقتصاد والتجارة. وتركه لصالح الشركات العابرة للقارات أو متعددة الجنسيات، ولفوضى السوق، والتنافس الأعمى، الذي تقوم عليه. لأن هذا سيقود بالضرورة الى دمار تام للهياكل الاقتصادية، المنهكة أصلا جراء عقود من الاستبداد والفساد. وزعزعة الاستقرار، للحفاظ على تفوق الكيان الصهيوني في المنطقة، بل وتحويله إلى محور لتحالف استراتيجي تدور حوله أنظمة الاستبداد والفساد في المنطقة ويقودها، لانخراطهما البنيوي في النظام الرأسمالي الامبريالي، وتقاطع مصالحهما في وأد الثورات، ويتم التسويق لهذا التحالف الآن باسم "نيتو الشرق الأوسط" . وإلى جانب ذلك، فإذا كان الربيع العربي فتح إمكانية انتظام الشعوب العربية الاسلامية في المدى السياسي المنظور بذاتها وحول ذاتها لخلق أرضية للوحدة، فسياسات دول المركز، رغم تصريحاتها المتناقضة، تظل معادية لكل التجمعات الاقليمية التى يمكن أن تتحول إلى مؤسسات تعبر فعلا وحقيقة عن ارادات وطموحات الشعوب في الوحدة والتقدم على كل المستويات، وبناء علاقات مع دول المركز نابعة من تلك الإرادات والطموحات، وعلى أرضية أن الانسان محور الكون أينما وجد هذا الإنسان، بعيدا عن مركزية "المركز" المؤسسة على أولوية المصلحة الاقتصادية وثانوية القيم الانسانية الضامنة لحرية وكرامة الإنسان، أو "منطق" "لنا إنسانيتنا ولكم إنسانيتكم". وتبرز معاداة المركز لتحول التجمعات الاقليمية إلى تجمعات فاعلة كاستحقاق من استحقاقات ثورات الربيع العربي، في دعم تحويل الجامعة العربية، على علاتها الهيكلية والإجرائية، إلى هيكل لتبييض سياسات نظم الاستبداد والفساد الدموية والتبجح بها، مثلما حصل في المؤتمر الأوروبي-العربي الذي انعقد بمنتجع شرم الشيخ على ساحل البحر الأحمر بمصر، بعيد إعدام نظامها الانقلابي - وخارج الأطر القانونية المحلية والعالمية- لتسعة من شبابها قبل النظر في مطلب التماس اعادة النظر في القضية المقدم للسلط القضائية المحلية. كما يبرز هذا العداء أيضا في السعي إلى تفكيك مجلس التعاون الخليجي بافتعال أزمة لضرب حصار لا انساني ولا أخلاقي على دولة قطر -لموقفها الايجابي من ثورات الربيع العربي- من طرف مثلث الثورة المضادة لثورات الربيع العربي أو "رأس الحربة العربي" "للنيوليبرالية" في المنطقة، والمتمثل في السعودية والإمارات ومصر، أو الثلاثي المسكوت عنه والمدعم سرا من طرف دول المركز. ويبرز هذا العداء كذلك في استهداف المملكة المغربية، من طرف نفس المثلث، لموقفها الرافض لعملية التدمير الممنهج لليمن – شعبا وثورة ودولة وحضارة-، وذلك بالنفخ في قضية الصحراء الغربية لتعطيل احياء مسار الاتحاد المغاربي ووضع العراقيل أمام امكانية انعقاد قمته المؤجلة منذ أواسط تسعينات القرن الماضي.
أمام كل هذه الإكراهات، فان استعادة الإرادة السياسية على الاقتصاد، هي من أهم استحقاقات الشعوب الثائرة. وهي المهمة المستقبلية الأساسية، والأصعب لصانعي القرار. حيث سيجدون أنفسهم أمام خيارات قليلة، ووقت أقل في مواجهة تحديات كبيرة، ليس أقلها إشكالية الديون، والتنمية، وتساؤلات الأجيال القادمة. وتعني استعادة الإرادة السياسية على الاقتصاد، السيطرة على العلاقات الخارجية، وتدخل الدولة النشيط في هيكلية التوجهات الإنتاجية، وتنظيم التوزيع الاجتماعي، والتعليم والتأهيل، والصحة، وأماكن العمل. فالتكيف الأعمى مع الضرورات التي تفرزها السوق العالمية، تقود المجتمعات الى فوضى لا مناص منها، لأن ثمن إستثراء البعض، يكون تهميش الآخرين، ودفعهم نحو التطرف، والجريمة، والانحلال. ويمكن لعب الانخراط في الاقتصاد العالمي، دون التخلي عن تقوية الهياكل الوطنية، المركزة على ذاتها، مثلما فعلت النمور الأربعة (كوريا الجنوبية- سنغفورة- تايوان- هونغونغ) والتنينات (ماليزيا- تايلندا- أندونيسيا- الفيلبين) الآسوية وتركيا. ولا يكون هذا التركيز على الذات إلا بتكريس الديمقراطية بتلازم بعديها السياسي والاجتماعي، وحرية الصحافة التي من شأنها كشف ومكافحة الفساد الذي يتغطى بالاقتراض،والتوقف عن تحرير الاقتصاد من دون تعزيز الرعاية الاجتماعية، وامتصاص التكنولوجيا بتثوير منظومات التعليم في كل مستوياته، والاستثمار المستقل والعقلاني في الموارد البشرية والطبيعية الوطنية الهائلة . إلى جانب الاستفادة مما فتحه الربيع العربي من امكانية انتظام الشعوب العربية الاسلامية في المدى السياسي المنظور بذاتها وحول ذاتها، بتدعيم علاقاتها البينية على كل المستويات والتوجه أكثر في علاقاتها الدولية نحو الجنوب/ الأطراف حيث عمقها التاريخي والحضاري والاستراتيجي، في إطار نظام عالمي مأزوم يتجه بدوره نحو تعدد الأقطاب، وحيث سيكون للجنوب نصيب من هذه الأقطاب.
الخاتمة
لقد وضعت ثورات الربيع العربي حدا فاصلا لما قبلها وما بعدها، محليا وإقليميا ودوليا. و فتحت آفاق جديدة للتحرر من التبعية الاقتصادية واستتباعاتها السياسية، والثقافية، وغيرها، والتي عمقتها عبر عقود من الاستبداد والفساد، أنظمة ملحقة بنيويا بالامبريالية العالمية. كما كشفت هذه الثورات، على أن الليبرالية المحدثة أو العولمة الجديدة المندفعة بكامل طاقاتها، في طريقها للانهيار تحت ثقل التناقضات التي راكمتها وتراكمها سواء في المركز أو الأطراف. فالتناقض حاد جدا بين خيار العولمة دون تنازلات، وبين ارادة الشعوب في التحقيق الفعلي للاستقلالية الوطنية. ويظل المعيار الأساسي للحكم على نجاح ثورات الربيع العربي من عدمه، تحقيق استقلال وسيادة القرار الوطني، والانعتاق من نمط التبعية للخارج. ويمتاز هذا المعيار بحساسية بالغة في أوساط الرأي العام في المنطقة، ووسط شعوبها، نظرا لما عانته من تحالف طويل، تم على حسابها وأطال من معاناتها، بين البلدان المتقدمة/المركز والأنظمة المستبدة والفاسدة. ويظل هدف هذه الشعوب إقامة علاقاتها مع الخارج، والبلدان المتقدمة/المركز تحديدا، على قاعدة الندية الضامنة لكرامتها، والمصالح المشتركة للشعوب من الجانبين وليس لأقلية. ولا يكون ذلك إلا عبر أنظمة ديمقراطية مجسدة حقيقة وفعلا لإراداتها. وان من المصلحة الإستراتيجية للبلدان المتقدمة/"المركز" أيضا، إقامة علاقاتها ومصالحها مع الشعوب وليس مع الأنظمة الاستبدادية والفاسدة.