ارتفع سقف الحَراك الشعبي بالجزائر إلى المطالبة بتغيير جذري للنظام، غير أن التحدي حاليا هو كيفية تحويل هذا الرفض إلى مشروع سياسي يحقق الانتقال التعاقدي ويجنب الجزائر الانتقال المفروض.
تشهد الجزائر منذ بداية سنة 2019 غليانا شعبيا لم تشهده مند عقود عدة. ويعود سببه بدرجة أولى إلى تمسك الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالترشح لعهدة رئاسية خامسة وسط جدل كبير حول وضعه الصحي. وبقدر ما يثير هدا الترشح من التساؤلات حول قدرة شخص خصص كل أسفاره إلى الخارج من أجل العلاج، فإنه يثير كذلك تساؤلات حول سلطة سياسية عزلت نفسها عن المجتمع بسبب ممارساتها، وبسبب الخيارات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومات المتتالية، ولا سيما منذ بداية الأزمة المالية الناجمة عن انهيار أسعار النفط عام 2014، حيث انخفضت المداخيل بما يقارب 50 بالمائة، مما أدى إلى اللجوء إلى خيار التمويل غير التقليدي أي طباعة نقود بدون مقابل.
كما جاءت هذا الانتخابات في ظروف سياسية أمنية ميّزتها أزمة المجلس الوطني الشعبي من خلال الانقلاب على رئيسه، وتغييرات غير مسبوقة في سلك المؤسسة العسكرية التي شاهدت عزل أو إقالة أو متابعة ضباط سامين في مناصب جد حساسة، إضافة إلى ما سبقه من حدث إجرامي غير مسبوق تمثل في أكبر فضيحة تهريب للكوكايين في تاريخ الجزائر.
وبالرغم من إقدام الرئيس على سحب ترشحه وتأجيله للانتخابات الرئاسية، واقتراحه لمرحلة انتقالية، فإن الاحتجاجات تواصلت بل واتسعت رقعتها.
ما هو مآل هذا الاقتراح؟ هل ستشهد الجزائر انتقالا ديمقراطيا أم إعادة إنتاج النظام القائم بوجوه جديدة؟
ملامح الحَراك الشعبي
لقد أدى إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن نيته الترشح لعهدة خامسة إلى ردود فعل متبعثرة ومحدودة في مرحلة أولى تمثلت في مناوشات نذكر منها، على سبيل المثل لا الحصر، تلك التي حصلت في بلدية خنشلة عندما أقدم المواطنون على نزع صورة الرئيس الملصقة على واجهة البلدية.
غير أن هذه المظاهرات المحدودة جغرافيا ما لبثت أن تحولت إلى حَراك شعبي واسع وشامل يوم 22 فبراير حيث عرفت كل أقطار الجزائر استجابة موحدة لنداء التظاهر بعد صلاة الجمعة انطلاقا من المساجد.
وقد كان لمواقع التواصل الاجتماعي دورا محوريا في اتساع رقعة هذه التظاهرات من خلال الدعوات الملحة والمتكررة للمواطنين من أجل التظاهر كل يوم جمعة بطريقة سلمية.
هذا الحراك الذي لم تشهده الجزار من قبل يتسم بالعديد من الخصائص والمميزات الجديرة بأن تحظى بالمعاينة والدراسة. وسنحاول أن نلخص هذه المميزات فيما يلي:
ثانيا، تزامنا مع سقوط حظر التظاهر في العاصمة اتسعت رقعة المظاهرات زمانيا، حيث أصبح الجزائريون يحضرون ويلتقون تقريبا كل يوم سواء في أماكن محدودة كالجامعات والنقابات والجمعيات أم في الفضاء العام كوسط العاصمة، غير أن أكبر التجمعات كان تحدث بالأساس نهاية كل أسبوع في شوارع المدن والقرى، في شمال وجنوب وغرب وشرق البلاد وفي الوقت نفسه. ويمثل الطابع المتزامن والوطني لهذه التجمعات أول ميزة تميز بها الحراك، حيث كانت كل الاحتجاجات التي عرفتها الجزائر منذ عقود، محدودة جغرافيا (منطقة القبائل، ورقلة، غرداية..) وغير متزامنة. بالإضافة الى أنها كانت تتمحور بالأساس حول مطالب فئوية، مهنية واجتماعية.
ثالثا، تجري هذه التظاهرات بطريقة سلمية رغم غياب تأطير هيكلي لها. فمنذ بداية الحراك تكرر شعار "سلمية سلمية" كمبدأ أساسي ليتحول بعد ذلك إلى نهج عملياتي يتجلى عبر النداءات المتكررة بعدم الاستجابة للاستفزازات وعدم الدخول في مواجهات مع أجهزة الأمن. وبالفعل توالت المظاهرات الأسبوعية بدون تسجيل مناوشات خطيرة باستثناء بعض منها وقع بعد انتهاء المظاهرات وكانت من فعل جماعات قالت الحكومة إنها لا تنتمي إلى المتظاهرين. بالمقابل نلاحظ تمسك أعضاء أجهزة الأمن باحترافية وهدوء كبيرين.
رابعا، من حيث التركيبة الاجتماعية يمكن القول بأن هذا الحراك شمل كل شرائح المجتمع من شباب وكهول وشيوخ ورجال ونساء وعمال وعاطلين ومثقفين. وإذا كانت الشريحة الشبابية موجودة بقوة في هذا الحراك، فإن ما يلفت الانتباه هو، وبعكس الاحتجاجات التقليدية، تحاشي هؤلاء الشباب اللجوء إلى الأساليب التقليدية من غلق للطرقات وحرق للعجلات وكسر للمرافق العمومية. ولعل للتنوع الاجتماعي تأثيرا كبيرا في الحفاظ على سلمية الحراك واستمراريته.
أخيرا وليس آخرا، تتمثل الميزة الأساسية الأخرى لهذا الحراك في مطالبه التي بدأت وتواصلت بمطالب سياسية محضة من رفض للعهدة الخامسة، ثم رفض لتمديد العهدة الرابعة، إلى تغيير النسق السياسي بأكمله. وهذا يختلف جذريا مع المطالب التي بقيت تحرك الاحتجاجات الاجتماعية خلال عقود.
وبموازاة مع المظاهرات الجمعية، نلاحظ حراكا طوال أيام الأسبوع من خلال توقيف العمل وإضرابات وتجمعات ومسيرات نظمتها نقابات قطاعية في التربية، والتعليم العالي، والنقل، وسلك المحامين والقضاة، مرددة المطالب السياسية المذكورة أعلاه وليس المطالب الفئوية والمهنية التي عادة ما تحرك هذه القطاعات. كما نشير في نفس السياق إلى الانشقاقات التي طالت الهيئات
المعروفة بانتمائها للموالاة على غرار النقابة التاريخية (الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، ومنتدى أرباب العمل ومنظمة المجاهدين وأبناء الشهداء، وحزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي.
في ظل اتساع رقعة الحراك زمنيا ومكانيا وارتفاع سقف المطالب من رفض العهدة الخامسة إلى التغيير الجذري للنظام، ماذا كان رد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟
الانتقال المفروض
في محاولة منه لامتصاص غضب المتظاهرين الذي ازدادت حدته مع اقتراب موعد فصل المجلس الدستوري في ملفات الترشح أعلن الرئيس المنتهية عهدته عن مجموعة من القرارات:
أولا، سحب ترشحه لعهدة خامسة.
ثانيا، تأجيل الانتخابات لأجل غير محدد.
ثالتا، تغيير حكومي هام.
رابعا، تنظيم ندوة وطنية تضم جميع الفعاليات، تكون مهمتها اقتراح إصلاحات سياسية عميقة بما فيها دستور جديد يُعْرض للاستفتاء.
خامسا، تنظيم انتخابات رئاسية تشرف عليها لجنة انتخابية وطنية مستقلة.
سادسا، تشكيل حكومة تضم كفاءات وطنية تدعمها الندوة الوطنية.
أخيرا، يتعهد الرئيس بضمان تجسيد هذه الوعود.
ونلاحظ مبدئيا أن هذا العرض لا يختلف عن ذلك الذي قدمه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يوم 3 مارس تاريخ إيداعه ملف ترشحه لدى المجلس الدستوري. فباستثناء تأجيل الانتخابات الرئاسية، كرر الرئيس المنتهية عهدته نفس الوعود مع تقديم بعض التفاصيل، مما يشير إلى أنه متمسك بالبقاء في السلطة من خلال تمديد عهدته الرابعة بعد أن عبّر الشعب الجزائري عن رفضه لعهدة خامسة.
وإذا كان الرئيس قد حرص على أن يدرج هذا العرض في منطق الانتقال الديمقراطي، وهي سابقة في حد ذاتها، فإن هناك مجموعة من المؤشرات تجعل هذا الطرح محل تساؤلات.
أولا، قام الرئيس بتعيين وزير الداخلية الأسبق، نور الدين بدوي، وزيرا أول، وهو الذي أشرف على الانتخابات التشريعية والمحلية لسنة 2017، وهي انتخابات شهدت بعض التجاوزات كالتزوير وشراء الذمم. يضاف إلى ذلك الطريقة التي ووجهت بها مظاهرات الأطباء المضربين.
وفي سياق الانتقال المفروض استُنجِد بالدبلوماسي المخضرم، الأخضر الإبراهيمي، لتسويق خطة الرئيس للرأي العام الدولي والجزائري، غير أن العلاقات الوطيدة بين الإبراهيمي والرئيس، وتصريحاته العديدة حول صحة الرئيس وقدرته على مواصلة مهمته، إضافة إلى تقدمه في السن وابتعاده عن الجزائر لسنوات طويلة، جعلته في نظر الجزائريين غير مؤهل للقيام بهذه المهمة. وعليه، توحي المؤشرات الأولية بأن الحكومة التي وعد بها الرئيس يصعب عليها أن تمتص الغضب الشعبي وأن تقود المرحلة الانتقالية التي تستلزم درجة معينة من الحياد أو على الأقل مسافة ما من السلطة.
أما فيما يتعلق بالندوة الوطنية، فإن المقترح في حد ذاته غير سيئ، إلا أن تركيبتها ومن يعيّن أعضاءها من شأنه أن يُفقدها المصداقية ويُفْرغها من محتواها، ناهيك عن أن الإشكال الجوهري ليس في وضع الدستور بقدر ما هو في احترامه، حيث إن الدستور عُدّل من جديد في عام 2016، بعد ذلك الذي صدر عام 2008، وخُرِق بتمديد العهدة الرابعة.
توحي هذه الاعتبارات بأننا أمام محاولة إعادة استنساخ نموذج ندوة الوفاق الوطني لسنة 1994 التي سعت السلطة السياسية من خلالها إلى التحكم في المرحلة الانتقالية آنذاك، من المنبع إلى المصب، بفرض مقدماتها ونتائجها: انتخابات رئاسية سنة 1995، تعديل دستوري سنة 1996 وانتخابات تشريعية ومحلية سنة 1997.
على ضوء ما تقدم، يمكن القول بأننا أمام مقاربة من نوع "الانتقال الفوقي والمفروض" الذي يروم إعادة إنتاج النسق السياسي بثوب جديد، وهو ما يرفضه الحراك الذي يطالب بمرحلة انتقالية تفضي في آخر المطاف إلى تغيير النظام جذريا، سلميا وتوافقيا. لكن ما هو النموذج الأنسب لتحقيق هذه التطلعات؟
الانتقال التعاقدي
يؤكد معظم دارسي إشكالية الانتقال الديمقراطي، أنه لا يوجد نموذج معياري شامل يمكن تطبيقه على جميع الحالات. فالدول التي سارت على هذا النهج، بدءا من إسبانيا، مرورا بدول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وصولا إلى تونس، كيّفت هذه المقاربة وفق خصوصياتها السوسيولوجية والأنتروبولوجية والسياسية.
ذلك أن الانتقال الديمقراطي، الذي يفهم على أنه مرحلة زمنية بين نظامين، ما هو إلا هندسة تتضمن مجموعة من الآليات وتفرض إيقاعا معينا يجب احترامه للوصول إلى الهدف المنشود. فالتجارب الناجحة إلى حد ما، ونخص بالذكر تونس، وبعض الدول الإفريقية، تعلمنا بأن نجاح الانتقال التعاقدي يستند إلى المرتكزات التالية: التفاوض، والتوافق، والتدرج، والسلمية، لكنه يستلزم توفير مجموعة من الشروط يمكن أن نوجزها فيما يلي:
أولا، وجود معارضة قوية ومنظمة وذات تمثيل قوي في شكل أحزاب، أو تنظيمات نقابية وجمعيات. ما يمكن ملاحظته في الحالة الجزائرية هو أن هذه المؤسسات السياسية والاجتماعية، تجد نفسها في حالة ضعف عن مواجهة السلطة. يعود هذا الضعف لأسباب موضوعية يرتبط جزء منها بسياسة التطويق والاحتواء التي فرضتها السلطة السياسية، في حين يرتبط الجزء بأسباب تخص مسؤولية هذه المؤسسات وممارستها. وإذا لم تنفتح هذه الأحزاب على المجتمع ويقترب بعضها من بعض في تكتل يختزل الطموحات الفردية، فإنه سيصعب عليها أن تكون في موقع تفاوضي أمام السلطة.
ثانيا، تواصل الحراك للضغط على السلطة السياسية ورفع سقف المطالب وإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات، وهو ما يطرح في حد ذاته إشكالية هيكلة هذا الحراك وإيجاد ممثلين يتحدثون ويتفاوضون باسمه مع السلطة.
ثالثا، تعزيز مركز الجناح الإصلاحي داخل السلطة في مواجهة الجناح الرافض لأي تغيير والمتمسك ببقاء الوضع الراهن. فعلى غرار ما حدث في بعض الدول، كتونس مثلا، يمكن أن نفترض وجود تيار داخل هرم السلطة مقتنع بضرورة التغيير التدريجي والتفاوضي، وهو ما حدث سنة 1988.
الخاتمة
وفي الختام يمكن القول إن نطاق الحراك قد اتسع وإن سقف مطالبه قد ارتفع منذ 22 فبراير، ولم تعد العهدة الخامسة هي المطلب الأساسي بل ارتفعت المطالب إلى تغير جذري للنظام، غير أن التحدي حاليا هو كيفية تحويل هذا الرفض إلى مشروع سياسي يحمله فاعلون قادرون على تشكيل كتلة تتفاوض مع السلطة السياسية من موقع قوة وتجنيب الجزائر الانتقال المفروض.
___________________________________________________________
*- لويزة آيت حمادوش: أستاذة محاضرة بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية. جامعة الجزائر 3.