علي العبيدي (كاتب و باحث تونسي )
سنحاول في هذه الدراسة الموجزة تتبع الخيط الرفيع الرابط بين لقائي “وارسو” و “شرم الشيخ” في مستوى العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية الرسمية، الذي يتجه نحو مناقشة الأسس الموضوعية لمثل هذه العلاقات إضافة إلى ما يحققه الرأسمال الرمزي الذي يستثمر فيه الغرب من عوائد استثنائية.
الباب الأول: في السياقات:
تندرج العلاقات بين الأوروبيين والعرب (الرسميين) ضمن مجموعة من السياقات الموضوعية التي تتوزع بين المحددات الأمنية والإستراتيجية والاقتصادية وغيرها نستعرض بعضها في العناوين الفرعية التالية:
1 – السياق الأمني:
طالما هيمنت الهواجس الأمنية لكتلة الاتحاد الأوروبي على علاقات هذه المجموعة مع الدول العربية بالنظر إلى القضايا التقليدية (الهجرة غير الشرعية، قضية اللاجئين) أو المستحدثة (الإرهاب و الجريمة المنظمة..).
و إذا كانت دول الاتحاد قبلة مفضلة للاجئين، فان ذلك ساهم في فتح ثغرات تسلل منها الإرهابيون لينفذوا تفجيرات وعمليات انتحارية أدت إلى سقوط ضحايا مدنيين في مختلف المدن الأوروبية. كما تنوء القارة العجوز بأعباء آلاف المهاجرين غير النظاميين القادمين من إفريقيا وحتى آسيا، تقوم عصابات منظمة بتهريبهم إلى الضفة الشمالية للمتوسط.
لذلك اتجهت أوروبا جنوبا لتتعاون مع الدول العربية لمحاولة علاج قضايا اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين نظرا لما يمثله العرب من الوافدين على دول الاتحاد (حوالي الثلث حسب تقديرات المجلس الأوروبي) واعتبارا كذلك إلى أن الدول العربية تستضيف أعدادا كبيرة من اللاجئين. ومن الطبيعي بالتالي أن تتصدر هذه القضايا جدول أعمال القمة العربية الأوروبية الأولى المنعقدة بشرم الشيخ المصرية خلال اليومين
و يمكن الإشارة – على سبيل الذكر- إلى المسائل الإشكالية التالية:
* المقترحات الأوروبية بشأن اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين: وتتضمن “إنشاء مراكز أو “مجتمعات صغيرة” و تمويلها من الاتحاد الأوروبي لتوطين اللاجئين في بعض دول إفريقيا تمهيدا لإعادتهم إلى بلدانهم، في إطار صيغة مشابهة لاتفاق العام 2016 الموقع مع تركيا. وإذا كانت المغرب وليبيا وتونس يرفضون مبدئيا مناقشة تلك المقترحات تماما كما هو الموقف الغالب في إطار الاتحاد الإفريقي، فإن مصر التي ترأس الاتحاد تميل إلى التفاعل إيجابيا مع هكذا مشاريع مقابل دعم مالي مجز لأغراض التنمية. و تعتبر علاقة “السيسي” بالمجلس الأوروبي ودول الاتحاد نموذجا يحاول الطرف القوي (الاتحاد الأوروبي) استنساخه مع دول شمال افريقية أخرى. و الملاحظ أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تنفي الأرقام الفلكية التي يروج لها “السيسي” و تؤكد أن عدد اللاجئين المقيمين في مصر لا يتعدى 245 ألفا يشكل طالبو اللجوء منهم 194 ألفا و 51 ألف نازح (أكثر من نصفهم سوريون). ولعل الموقف المصري المرن جدا في ما يخص الهجرة غير الشرعية (مقابل الإغراءات المادية / قروض و استثمارات) يشكل أحد الأسباب المعلنة لاختيار شرم الشيخ مقرا لأول قمة عربية أوروبية.
* الاتفاقيات الأمنية ومنها تلك المتعلقة بتبادل المعلومات: لا يجد الأوروبيون حرجا كبيرا في مناقشة أفكار وعرض مقترحات على أنظمة الحكم في الدول العربية تنتهي إلى إبرام اتفاقيات أمنية تتعلق غالبا بتمكين الطرف الأوروبي من بيانات مفصلة بشان المشتبه بهم تبدأ بمعتقداتهم الدينية وانتماءاتهم السياسية والنقابية ولا تنتهي عند توجهاتهم الجنسية.. إن مثل هكذا صفقات مع أنظمة استبدادية تؤدي بالتأكيد إلى تبعات كارثية على حقوق الإنسان في بعض هذه الدول و من بينها مصر “السيسي” ذات السجل الأسود في هذا المجال والتي تناقش اتفاقية مماثلة مع الاتحاد الأوروبي.
و يتجه في هذا المجال التأكيد على الأفكار الرئيسية التالية:
أولا- تداخل الفاعلين في هذه المعادلة الأمنية:
لا يمكن إغفال ادوار الدول الكبرى من خارج الاتحاد عند الحديث عن حركة الهجرة واللجوء والإرهاب عبر المتوسط ( وحول العالم). فالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا يتحكمان في جوانب من هذه المعادلة الأمنية لصلتهما المباشرة آو غير المباشرة بالتنظيمات الإرهابية عبر المتوسط (وحول العالم) سواء كان ذلك بالصناعة أو الدعم أو التوظيف. إن أي حركة هجرة أو نزوح أو لجوء تنجر عما تعتبره البلدان حربا على “الإرهاب” سواء كان احتلالا عسكريا (العراق 2003 مثلا ) أو عسكرة لثورة شعبية (سوريا مثالا) تتحمل أوروبا تبعاته غالبا. فهذه الحركة تنعكس على دول الاتحاد سياسيا من خلال تغذية الإيديولوجيات اليمينية الانفصالية و العنصرية وتصعيد الأحزاب اليمينية المتطرفة التي أمسكت بالسلطة أو شاركت فيها في أكثر من بلد أوروبي، و هذا ما أصبح يهدد وحدة الاتحاد. كما أن هذه الحركة النشطة عبر المتوسط قد تحمل بين جنباتها إرهابيين قد يهددون النسيج المجتمعي في دول الاتحاد والمساهمة في استقطاب الأجيال الجديدة من المهاجرين الذين يعيشون أوضاعا اجتماعية واقتصادية مزرية.
ثانيا- أولوية الاستقرار في الشرق الأوسط:
يقدم بلدان الضفة الشمالية للمتوسط البعد الأمني في سياساتهم المتعلقة بمسائل الهجرة واللجوء وما يرتبط بها من انعكاسات سلبية (كالإرهاب). و يختزلون مقاربة هذه القضايا في بعدها الأمني أي عسكرة المتوسط وحراسة الحدود و بناء المعتقلات الوقتية أو القارة وابتزاز الأنظمة المستبدة لدول جنوب المتوسط لبذل المساعي والجهود (الأمنية ) للحد من هذه الظواهر.
و يترتب على هكذا معالجة ما يلي:
1 – الهجرة و اللجوء:
وهي مجرد مسائل أمنية يمكن التحكم فيها من خلال تشديد التشريعات والمراقبة الأمنية عبر الحدود و ليست،كما نقدر، قضايا إنسانية شاملة تتطلب معالجة متعددة الأبعاد (قانونية، قضائية، إنسانية، تنموية، سياسية)، لا يمكن التصدي لها دون المساهمة في علاج البيئة المصدرة لها (الاستبداد، الفساد) ودون إعادة النظر في مواقف البيئة
الجاذبة ( الامتناع عن شرعنة الاستبداد ودعم أنظمته، احترام الإرادة الشعبية وخيارات شعوب جنوب المتوسط..).
2 – تغليب المصالح الآنية لدول الشمال و اعتماد “الواقعية” السياسية:
وهي تعظم تلك المصالح وتسمح بتمرير صفقات أمنية مع أنظمة الاستبداد وتجاوز اعتبارات حقوق الإنسان والحريات الأساسية. إن مثل هكذا مقاربات لا تعمل على علاج قضايا الهجرة واللجوء إلا بصفة جزئية ووقتية ولا تسهم إلا في شرعنة أنظمة الاستبداد في العالم العربي الذين أصبحوا يحظون بدعم زعماء ضفتي الأطلسي. إن تقديس الاستقرار (ببعده الأمني فقط) جنوب المتوسط يعني عدم استعداد الاتحاد الأوروبي لتحمل تكلفة الديمقراطية و الحرية في بلدان الجنوب كما كان الحال قبل الثورات العربية و بعدها، وهي سياسات غير مضمونة العواقب على المدى البعيد.
فقرة ثانية- السياق الاستراتيجي:
هل إن ما تشهده العلاقات بين ضفتي الأطلسي من اختلاف يصل أحيانا حد الشقاق حول بعض القضايا، منها ما له علاقة بعالمنا العربي (فلسطين، سوريا..) و بالإقليم ( إيران) يؤشر إلى توازي مصالح كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط أو تضاربها؟. إن الجواب بنعم يؤدي بالضرورة إلى إنكار حقائق الايدولوجيا والتاريخ والجغرافيا. فالخلافات التي تطفو إلى السطح أحيانا لا تنفي تقاطع المصالح الجوهرية لكل منهما في الشرق الأوسط و أن التباين لا يرتبط بالأهداف بل بالأدوات المثلى لتحقيق تلك المصالح. لقد تعزز الشعور بالشقاق في عهد الرئيس الأمريكي”ترامب” الذي يتميز بخليط معقد من الشعبوية والعنصرية والتطرف. وإذا كان الأوروبيون قد حاولوا نكران ما يمكن أن نطلق عليه “الترامبية” ثم انتظروا قرارات العهد الأمريكي الجديد وإجراءاته قبل أن يمروا إلى تفعيل معارضتهم، وإن على استحياء أحيانا. وإذا كانت سياسات أوروبا بشان الشرق الأوسط تختلف عن مثيلتها الأمريكية، فهل تملك القارة العجوز الأدوات التي تمكنها من ترسيخ قدمها في هذه المنطقة التي تشهد تنافسا جيوسياسيا محموما؟
يبدو أن الجواب بالنفي هو أقرب إلى المنطق و الواقع. فدول الاتحاد الأوروبي تشهد انقساما سياسيا ليس آخر حلقاته ما كشفه مؤتمر “وارسو” من تمزق أوروبي بين ضفتي الأطلسي تعزز بتغير الخارطة الحزبية والصعود الصاروخي للأحزاب اليمينية المتطرفة. كما لا تملك أوروبا القوة العسكرية الكافية التي تمكنها من التعامل بالفعالية الكافية بصفة مستقلة عن الدعم الأمريكي. وقد سعى الأوروبيون، رغم كل ذلك، ملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الأمريكي من المنطقة محاولين تثبيت وجودهم جنوب المتوسط لمواجهة روسيا و الصين. وعليه يمكن تفسير اندفاع الأوروبيين نحو الدول العربية بعاملين على الأقل:
1 – السعي إلى مواجهة النفوذ الروسي الجيوسياسي والأمني و العسكري و الاقتصادي في الشرق الأوسط (و خاصة في سوريا) و كذا الحضور الصيني المتصاعد في المنطقة.
2 – صفقات الأسلحة: استغلت الدول الأوروبية تكالب أنظمة الدول العربية ( دول الخليج ومصر) على تكديس الأسلحة لتمكين شركاتها من إبرام صفقات مجزية قد يربحون من خلالها معركة المنافسة الشرسة مع روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما يفسر قبول الأوروبيين حضور قمة “شرم الشيخ” دون جدول أعمال محدد. لقد اثبت مسار الأحداث والأزمات المتلاحقة التي عرفها الوطن العربي المنهك أصلا بالاحتلال و الاستبداد و الفساد والتبعية أن الاتحاد الأوروبي هو اللاعب الأضعف في معادلات الشرق الأوسط ولم يعد بإمكانه فرض أجنداته و تصوراته. إن الحديث عن بناء منظومة علاقات أوروبية عربية، على أهميته، يعتبر مشروعا بعيد المنال في ظل اشتداد التنافس والصراع على المصالح في المنطقة و الهيمنة الصهيونية وحالة الهوان العربي الذي خلفه الاستبداد والفساد والتبعية.
فقرة ثالثة – السياق الاقتصادي:
إذا كانت السياقات الأمنية والإستراتيجية محددة في العلاقة بين تكتل الاتحاد الأوروبي والدول العربية، فان المعطيات الاقتصادية،على أهميتها، لا تبدو بنفس الأولوية في هذه القمة العربية. لماذا؟
أولا- الاختلال البنيوي لمصلحة تكتل دول الاتحاد الأوروبي على حساب الدول العربية: تتعامل الدول الأوروبية مع دول جنوب المتوسط (من العرب و الأفارقة) باعتبارها تكتلا موحدا، منتجا للتكنولوجيا، وترى في المنطقة العربية مجرد سوق ضخم يقارب 400 مليون مستهلك. فقد بلغت الاستثمارات الأوروبية 240 مليار دولار حتى 2016 وتركزت خاصة في مجالي النفط والغاز ( حوالي 123 مليار). وتتوزع الاستثمارات الأخرى على مجالات استهلاكية كالأدوية والسيارات والأغذية موجهة إلى جمهور المستهلكين في جنوب المتوسط.
ثانيا- فلسفة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الدول العربية بصفة منفردة:
أصر الاتحاد الأوروبي دائما على رفض إبرام اتفاقيات اقتصادية مع تكتل يمثل العرب ولو كان ذلك في إطار كالجامعة الدول العربية. لقد كانت اتفاقيات الشراكة التي أمضاها الاتحاد الأوروبي مع دول عربية مثل تونس والأردن والمغرب والجزائر ولبنان ومصر تعمل في اتجاه واحد لصالح الاتحاد لأكثر من عشريتين..
ثالثا- تواصل تبعية الدول العربية للخارج:
لم تترجم هذه الاتفاقيات، رغم الوعود والهالة الإعلامية الرسمية، إلى تطور في قطاعات الصناعة و الزراعة و لم تنعكس ايجابيا على الواقع الاجتماعي لسكان جنوب المتوسط. فقد حلت الدول العربية مجتمعة في المرتبة الثانية كسوق لصادرات الاتحاد الأوروبي مباشرة بعد الولايات المتحدة الأمريكية و في المستوى الرابع كمصدر للاتحاد الأوروبي بعد الصين وروسيا و الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أكثر ما يحرك السياق الاقتصادي في هذه اللقاءات هو التراجع الاقتصادي الذي شهدته دول أوروبية عديدة (مثل فرنسا و ايطاليا) ثم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي و هو ما أدى إلى فقدان الشركات الأوروبية في المنطقة العربية لنفوذها لمصلحة الشركات الأمريكية والروسية واليابانية والهندية رغم عامل القرب الذي يصب في مصلحة الأولى.
إن وضعا بائسا كهذا (بالنسبة إلى الدول العربية و أنظمتها الوظيفية) يستدعي الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن لهذه الدول أن تكون شريكا للاتحاد الأوروبي حقا لا مجرد مفعول به في العلاقات الدولية و منها المبادلات الاقتصادية؟
يكتفي المختصون في هذا المجال التأكيد على الملاحظات الأساسية التالية:
أولا – على المستوى الهيكلي:
1 – لا يمكن للدول العربية فرادى أو حتى مجموعات أن تنافس تكتلا بحجم الاتحاد الأوروبي دون أن تنخرط في كيان جامع مماثل يعزز شروط التفاوض بخصوص العلاقات و الاتفاقيات مع أوروبا و غيرها من الدول أو التكتلات.
2 – العمل على تغيير هيكلة اقتصاديات الدول العربية بصفة جذرية خارج مجالي إنتاج المواد الأولية والصناعات التقليدية غير ذات القيمة الإستراتيجية بالنسبة للدول الأوروبية باستثناء النفط الذي ضمنت تدفقه.
3 – غياب البنية والبيئة المناسبتين لجذب الاستثمارات الأجنبية: إن انخراط الدول العربية منذ مطلع التسعينات في تبني سياسات اقتصادية تحررية من حيث سعر الفائدة والصرف وأسعار الوقود بما يجعلها في حدود الأسعار العالمية، ما يفقد تلك الدول الجاذبية اللازمة للاستثمارات. كما لم تمكن تلك السياسات من تحقيق حالة نجاح يمكن مقارنتها بمثيلاتها من الدول كتركيا و ماليزيا و غيرها.
ثانيا- على المستوى السياسي:
1 – السعي إلى بلورة إرادة سياسية: من شانها أن تؤسس للشروط الضرورية التي يمكنها أن تفضي إلى صياغة مشروع تنموي مستقل يعزز أدائها الاقتصادي و الاجتماعي ويدعم موقعه التفاوضي مع الطرف الأوروبي.
2 – العمل على دمقرطة الحياة السياسية: والتخلص من الاستبداد باعتباره قرين الفساد ومجلبة الغزاة. إن أي تغيير قد تطمح إليه الشعوب العربية لا يمكن أن يتحقق ضمن المقاربة الغربية التي تؤسس من خلال الاستقرار (ببعده الأمني) لتأبيد الاستبداد في المنطقة و التعامل مع أنظمة وظيفية لا يهمها إلا البقاء في الكراسي لأطول فترة ممكنة لتحقيق مصالح الغرب وأمن الكيان الصهيوني .
ثالثا – على المستوى الأمني:
1 – يمثل عدم الاستقرار المزمن الذي تعانيه المنطقة العربية على المستويين الأمني والسياسي بيئة طاردة للاستثمارات المباشرة في القطاعات الإنتاجية (الصناعية، الزراعية) و حتى في مجالات الخدمات و النقل…
2 – تنعكس الأزمات الاقتصادية الدورية أو الطارئة (كالأزمة المالية العالمية للعام 2008 وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اليوم) سلبا على البيئة الاستثمارية ويشجع الأوروبيين والأجانب على الانكفاء على الذات وعدم المغامرة بالاستثمار في المنطقة العربية. وإذا كانت هذه ابرز سياقات العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية من “وارسو” إلى “شرم الشيخ”، فكيف تبدو مسارات الاشتباك؟
الباب الثاني- في مسارات الاشتباك أو في الاستثمار الرمزي:
إذا استثنينا المصالح الثابتة للقوى الكبرى والشركات متعددة الجنسيات و بعيدا عن تفاصيل حسابات الربح والخسارة في اللقاءات بين الاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية من “وارسو” إلى “شرم الشيخ”، سنحاول التأكيد في هذا الحيز على فكرتين هما الاستثمار في الاستبداد العربي والاستثمار في الصهيونية باعتبار انخراطهما البنيوي في النظام الرأسمالي الامبريالي ونظرا لكونهما من الأدوات الوظيفية الموثوقة للمحافظة على المصالح الغربية في المنطقة.
فقرة أولى – الاستثمار في الاستبداد:
قد لا نتجاوز إذا قلنا إن أجندات العلاقات الأوروبية (الغربية)- العربية يفرضها الأوروبيون و ليس الحكام العرب. فالأوروبيون يتفاوضون مع غيرهم باعتبارهم وحدة سياسية واقتصادية متجانسة (نسبيا) و بوصفهم حكومات شرعية وسليلة إرادات شعبية حرة تلتزم في سياساتها كما في علاقاتها الخارجية باحترام تلك الإرادات التي تتمتع بحق المحاسبة والمسائلة. أما الأطراف العربية فتتشكل من أنظمة استبدادية (تقليدية أو “حداثية”) غير شرعية ولا تحكمها غالبا أي اعتبارات أخرى خارج ضرورات البقاء في السلطة.
يخير الغرب غالبا التعامل مع أنظمة استبدادية (ملكية، عسكرية) غير مسؤولة أمام شعوبها آو أمام برلمانات بلدانها ما ييسر التفاوض وإبرام الاتفاقات ولو كانت على حساب إرادات الشعوب العربية ومستقبل الأجيال العربية و ثروات بلدانهم ما ظهر منها وما بطن. وما يقع تسويقه باعتباره اتفاقيات أو تفاهمات يصبح اقرب إلى “صفقات مع مستبدين”.
و تذهب تحليلات تسطيحية إلى أن اتجاه الأوروبيين جنوبا و قبول التعاون مع حكام دمويين مرده الخلافات المستحكمة داخل الاتحاد الأوروبي بشان تفاقم قضايا الهجرة و اللجوء و الرغبة في تحقيق الاستقرار على ضفاف المتوسط، وإن أدى ذلك إلى اتهام الكتلة الأوروبية بالنفاق و ازدواجية المعايير من خلال إضفاء الشرعية على تلك الاستبداديات ..
و لكن نقدر: أن الغرب (شرقيه و غربيه) يستثمر في الاستبداد:
1 – يعتبر الاتحاد الأوروبي (و الغرب) أن الاستبداديات العربية رهانات مستقرة” تحافظ على المصالح الغربية و ترعاها مقابل حماية عروشها ضد أي تهديد داخلي (أي ضد شعوبها). فقد صرح ” غريغوري غوز” مثلا في مقالة له بمجلة شؤون دولية (2005) أن الولايات المتحدة ” يجب ألا تشجع الديمقراطية في العالم العربي لان حلفاء واشنطن من العرب السلطويين يمثلون رهانات مستقرة”. [1] فبالإضافة لضمان المصالح الاقتصادية للدول والشركات و المصالح الجيوستراتيجية للغرب (و امن الكيان الصهيوني بالضرورة)، يعمل الطغاة العرب على حراسة الحدود الجنوبية للمتوسط من خلال تركيز خطوط دفاعية يمولها الاتحاد لحمايته من موجات جديدة للهجرة السرية و اللجوء وأخطار الإرهاب. إن اختيار “شرم الشيخ” جسد تكريما أوروبيا لأحد ابرز طغاة مصر مكن من التغطية على سجله الأسود في مجال حقوق الإنسان و إضفاء “لشرعية” دولية تسمح له بتمديد غير محدد لمدد الرئاسة و هو ما فسر حقوقيا و سياسيا على انه ترويج للدكتاتورية في المنطقة العربية تحت عناوين مضللة غالبا ك” الاستقرار” و” الحرب على الإرهاب”.
2 – و إذا كان الاستبداد (و قرينه الفساد) مجلبة للغزاة على مر التاريخ، فان ذلك أصبح مندرجا ضمن بنية منظومة التطور الرأسمالي و الامبريالي.. و تعزز ارتباط أنظمة الاستبداد (و الفساد) العربية عضويا (منذ نهاية الثمانينات و بداية التسعينات) بالنيوليبرالية و اختنق الاقتصاد بين قبضة المستبدين وترتيبات العولمة المتوحشة التي اتخذت من الكيان الصهيوني نقطة ارتكاز لها في المنطقة من خلال مشروع “الشرق الأوسط الكبير”. وقد تزامن هذا الانخراط مع تصلب القبضة الأمنية للحكام العرب تحت يافطة “الحرب على الإرهاب” ” لفرض دمج “الكيان الصهيوني” في النسيج الاقتصادي والثقافي للمنطقة والقبول به كواقع قائم وشرعي لا يمكن التشكيك فيه، علاوة على مقاومته”. [2]
3 – دون الخوض في الافتراضات و الكليشيهات العنصرية التي تستحضر دائما عند دراسة مسالة العرب والديمقراطية من قبيل “عدم الأهلية الوراثية أو الجينية” و ” الإسلام مناقض للحداثة و التقدم و الديمقراطية”، يمكننا القول إن التحليل الغربي للواقع السياسي العربي واحتمالات التغيير الديمقراطي اعتمد على نظرة عنصرية استعلائية كرست مقولة “الاستعصاء”العربي والإسلامي وبررت ” الاستقرار” السياسي وكرست براديغم استمرار الاستبداد.. لذلك غيبت معظم تلك الأبحاث أي دور للحركات الاجتماعية أو الشبكات الاجتماعية و للثورات الشعبية آلية للتحول الديمقراطي. [3] لقد شكلت الثورات العربية (نهاية العام 2010 ) تحديا لذلك التحالف العضوي بين أنظمة الاستبداد (و الفساد) والنيوليبرالية وإعادة الاعتبار إلى الإنسان بما هو “جوهر الكون ومصدر الشرعية “وكذا التأسيس لاستعادة الشعب سيادته على موارده وصياغة نموذج تنموي مستقل يحد من التبعية للخارج و الارتهان. واعتبارا إلى أن أوروبا والغرب لا يمكنهما تحمل استتباعات الديمقراطية في العالم العربي، فقد تعاضدت قوى الثورة المضادة [4] في الداخل و الخارج لإجهاض الثورات العربية لان استنبات ديمقراطية حقيقية في المنطقة قد يشكل خطرا فعليا على مصالحها ومصالح وكلائها في المنطقة العربية، وهي بالتأكيد لا تخدم وجود الكيان الصهيوني.
إذا كانت اللقاءات العربية الأوروبية (الغربية) من “وارسو” إلى “شرم الشيخ”، قبلهما وبعدهما، واصلت الاستثمار في الاستبداد العربي المعمم للأسباب التي بينا أعلاه (و لغيرها)، فإن أوروبا و خاصة أمريكا جسدت استثمارها في الصهيونية (إلى جانب الاستبداد العربي) بحيث تحول الكيان الصهيوني من عدو إلى شريك و حليف لمواجهة تحديات ” مشتركة” مثل قوى “الإسلام السياسي” و إيران و جماعات العنف المتسترة بالدين…
فقرة ثانية – الاستثمار في الصهيونية:
إذا كان المشروع الصهيوني يهدف إلى منع قيام وتفعيل أي مشروع حضاري عربي إسلامي و إلى حماية المصالح الغربية في الشرق الأوسط، فان تأسيس كيان استعماري عنصري في قلب العالم العربي الإسلامي ساهم لا شك في تامين أداء هذه الوظائف. و عليه يمثل الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة لحماية المصالح الغربية في المنطقة ورأس حربة لإجهاض أي مشروع حضاري عربي إسلامي. اندرج المشروع الصهيوني وكيان الاحتلال الذي جسده واقعا في إطار التطور الرأسمالي الامبريالي. و ساهم هذا الكيان الاستعماري الوظيفي (كما الاستبداديات العربية بمختلف تلويناتها) في تأبيد حالة الجمود و التخلف التي عاشتها الأمة العربية الإسلامية و منع صياغة و تطوير أي بديل وطني تحرري. وقد اتخذت ترتيبات العولمة المتوحشة من الكيان الصهيوني نقطة ارتكاز لها، يدور في فلكها وحولها حكام مستبدون لا يملكون لأمرهم شيئا إلا ما خولتهم مقتضيات العولمة التنميطية المعادية لاستحقاقات الشعوب من قبضة حديدية يمارسونها على محكوميهم بضوء اخضر من دول المركز الرأسمالي التي تزداد قناعة بعد صدمة الثورات العربية بان انجاز استحقاقات الديمقراطية و حقوق الإنسان في العالم العربي وتأبيد الاستبداد تحت يافطة الاستقرار يخدم ضرورات التوسع الرأسمالي و الهيمنة على المنطقة. ولعل أكثر الذرائع المقدمة لاستمرار الاستبداد ما عرف بالحرب على الإرهاب. لكننا نعتقد إنه ” لو كان “الإرهاب” عدوا حقيقيا (لا مصطنعا) لما كانت أنظمة الاستبداد العميل في المنطقة العربية أكثر المتحمسين لمحاربته ولما قبلت الانخراط في حرب تستهدف مقدسات الأمة و مفردات هويتها ( تحت عناوين مضللة غالبا مثل ” إصلاح الإسلام” و” التجديد الديني” وغيرها) مع تيقنها بان تلك الحرب، ليست إلا ذريعة لإعمال معول الهدم في جسد الأمة الإسلامية وفي روحها(و العالم العربي في القلب منه) و لتعزيز التطبيع المباشر أو السري مع الكيان الصهيوني باعتباره كيانا “شرعيا” (في إطار استعارة مكافحة الجماعات الإرهابية السنية) و لشرعنة الهيمنة الغربية والأجنبية على مقدرات الأمة الروحية والرمزية والمادية والبشرية.”[5]
لذا لم يغب الكيان الصهيوني باعتباره قوة تكنولوجية و عسكرية و اقتصادية مهمة في المنطقة عن أي مناقشات أو حوارات عربية أوروبية أو أمريكية.
ففي “وارسو”، حيث كان الموضوع الأهم إدانة إيران، كان لافتا حضور رئيس وزراء الاحتلال “نيتانياهو” بصفة شخصية للمؤتمر. كما كان صادما حفاوة عرب “الاعتدال” (و خاصة دول الخليج و مصر ) بالشريك الصهيوني، حتى و إن خلا البيان الختامي المستعجل من أي إشارة صريحة لإيران. بينما غاب ممثل الكيان الغاصب عن “شرم الشيخ” لكنه كان حاضرا رمزيا و حتى سياسيا من خلال اشتراط السعودية و الإمارات و البحرين تمرير بند أو قرار في القمة يدين إيران التي تحولت عند العرب من جار إلى عدو. لقد تغير توصيف الأعداء و ترتيبهم وفق أجندات العولمة النيوليبرالية. فالأعداء في الداخل قوى المقاومة وكذا كل الأحزاب والتيارات السياسية، ذات المرجعية الإسلامية أو غيرها، التي تدعو إلى القطع مع الاستبداد و الفساد وإلى التحرر من الاحتلال و التبعية للخارج وكسر حلقة الاستعباد. أما العدو الرئيسي في الإقليم فلم يعد الكيان الصهيوني. لقد تحول هذا العدو الحقيقي إلى شريك أو حليف لمواجهة أعداء مشتركين مثل حركات المقاومة وما يعرف تجاوزا ب”الإسلام السياسي” و الخطر الإيراني و جماعات العنف بمختلف تشكيلاتها. لم يعد الأمر يرتبط فقط بالاعتراف بهذا الكيان الإرهابي الاستعماري. لقد تجاوز المستبدون هذه المرحلة إلى التطبيع. و تدرجت العلاقات الرسمية مع الكيان الصهيوني من العداء الصريح الظاهر إلى وسيلة للاندماج الدولي بالنسبة للأنظمة العربية الوظيفية التي تمارس القمع ضد شعوبها وتشدد الحصار على جيرانها (غزة نموذجا) و تتفنن في صناعة وتوظيف الإرهاب باعتباره آلية لشحن ” شرعية” زائفة و إعادة الاندماج في المجتمع الدولي. هكذا يراد فرض نظام إقليمي جديد يهيمن عليه الكيان الصهيوني تحت عنوان ” تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” يستهدف، حسب المسؤولين الأمريكيين والصهاينة، مواجهة الخطر الإيراني الزاحف و مكافحة الحركات المسلحة الجهادية. والخاسر الأكبر من هكذا تطورات وهكذا مشاريع يبقى القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وإرادة التحرر والانعتاق الكامنة لدى الشعوب العربية.
خاتمة:
حتى لو اتخذنا من لحظتي “وارسو” و “شرم الشيخ” إطارا زمانيا، فان العلاقات العربية الأوروبية (والغربية) حكمتها دائما سياقات موضوعية مثل الأمن والاستراتيجيا والاقتصاد و فرضت أوروبا أجنداتها بما يحقق مصالحها مدعومة في ذلك بالعوائد الأكيدة لاستثمارها في الاستبداد العربي و الصهيونية. وغني عن البيان فان تلك السياقات التي لا يحدد العرب أجنداتها غالبا و كذا الاستثمار الرمزي لا يمكن التسليم بتواصل عوائدها إذا ما استعادت الشعوب العربية سيادتها و حريتها.